خطة المدينة الإنسانية في رفح في السياق الإسرائيلي

يراهن الإسرائيلي، ومعه الأميركي ومن خلفهما الخليجي وقطيع المطبعين، على حيوية استثمار تبعات الحرب في الجانب المعيشي الإنساني اليومي.

0:00
  • هل تتنازل العوائل عن فلذات أكبادها من الشباب المجاهد لأجل لقمة طعام مغمسة بالدم؟
    هل تتنازل العوائل عن فلذات أكبادها من الشباب المجاهد لأجل لقمة طعام مغمسة بالدم؟

يتجرد المعنى الإنساني في المفهوم الإسرائيلي من كل جوهر إنساني، فقد ثبت لكل العالم الذي عاصر حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، أن هؤلاء القوم بالفعل ينظرون إلى البشر كخدم، وإلا فهم أعداء يستحقون القتل والاغتصاب والتدمير، باعتبار قناعتهم أنهم شعب الله المختار، وإلا ما معنى اعتبار جامعة هارفرد وكل جامعات النخبة الأميركية من قبل أكثر من مسؤول إسرائيلي أنها أذرع لحماس؟ بل وجنوب أفريقيا ومحكمة العدالة الدولية والجنائية كلهم أذرع لحماس، وحماس هي داعش!

ليس لسبب إلا لأن هؤلاء نظروا إلى الشعب الفلسطيني نظرة إنسانية، وهذه النظرة جريمة في العقل الإسرائيلي وسياسة لاسامية معادية لليهود كيهود، دون نظر إلى وحدة الانتماء الإنساني إلى المجموع البشري على هذه الأرض.

حرب إبادة مكتملة الأركان، ثم يتحدث الإسرائيلي عن إقامة مدينة إنسانية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، حيث الخط الأصفر في خطة ترامب، ما يبقي هذه المنطقة ضمن السيطرة الإسرائيلية في المرحلة الأولى من خطة وقف الحرب، بحيث تتأسس مدينة على حطام رفح وجثامين المقاتلين العالقين في أنفاقها، والإسرائيلي حتى الآن لم يلتزم بإزالة أطنان الدمار التي حولت رفح إلى مدينة أشباح، بحيث تكون المدينة الإنسانية الخضراء مجرد لعبة إسرائيلية ضمن المواصفات التالية:

أولاً: اقتطاع رفح وسلخها عن قطاع غزة، لتكون تحت قيادة ميليشيا عميلة هي عصابة أبو شباب الفاقدة للأهلية الشعبية، وخصوصاً بعد إعلان كل عوائل غزة البراءة التامة من قائدها وأفرادها المطاردين للمقاومة بتهمة الخيانة في ظل الحرب.

ثانياً: إطالة أمد السيطرة على المناطق داخل الخط الأصفر تحت دعوى إنشاء مدينة إنسانية، بحيث يقتصر دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح إليها وحدها، ودفع أهالي مدينة غزة والمخيمات الوسطى إلى الانتقال التدريجي إليها وفق برنامج إسرائيلي ميداني أمني.

ثالثاً: فرض واقع جديد على المنظومة الدولية والعربية الراعية لإقامة حكومة كفاءات فلسطينية في عموم قطاع غزة، باعتبار أن رفح بحكومتها العميلة نموذج لحكم كهذا يتوجب نيل الاعتراف به.

رابعاً: ضمان استمرار السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح، وهو النافذة الوحيدة للقطاع، من خلال عصابة أبو شباب، ما يعني إقصاء السلطة الفلسطينية عن المعبر، وهي الجهة المشاركة للاتحاد الأوروبي في إدارة المعبر مع مصر، بل وإقصاء مسبق لحكومة الكفاءات، وليس فقط حكم حماس بعيداً عن المعبر.

تتعثر فكرة المدينة الإنسانية في رفح، ليس بسبب الخلاف على مستوى الطابع الإنساني المزعوم، ولكن لأن حكومة اليمين المتطرف في "تل أبيب" تموج في مستنقع ثقيل من التوحش، بحيث لم يستوعب بعض غلاتها مجرد مصطلح "إنسانية" في العلاقة مع الفلسطيني، ولو كانوا يدركون أنه مجرد مسمى خادع مضلل، يحمل أهدافاً سياسية وأمنية خبيثة. لذا، بادرت الصهيونية الدينية عبر سيطرتها في وزارة المالية على إعاقة الخطوة الأولى في تنفيذ إقامة هذه المدينة، لأنهم يتوقعون أن التمويل لا يمكن أن يكون إسرائيلياً، فماذا يكون إذاً؟

 تعمل المقار الأميركية في كريات غات، بالتعاون مع قيادة "جيش" الاحتلال، على تطبيق المرحلة الأولى من المشروع في رفح، التي تشمل إنشاء "أحياء مؤقتة" في المناطق المفتوحة شرق رفح، وإشراف قوة دولية تحمل اسم "ISF" على سير الأمن والإدارة، وإقامة بنية تحتية متكاملة تتوفر فيها مدارس ومراكز طبية ومساجد وشبكات خدمات، والهدف اجتذاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين من المخيمات إلى هذه الأحياء مقابل توفير فرص عمل مؤقتة، وسيتم خلال ذلك عزل المناطق الخاضعة للمقاومة تماماً عن المساعدات الإنسانية ومشاريع الإعمار، كما يعتزم "الجيش" الإسرائيلي إقامة نقاط تفتيش متطورة على "الخط الأصفر" الفاصل لمنع تسلل عناصر المقاومة أو تهريب السلاح.

وتهدف الخطة إلى نقل ما يقارب مليوني فلسطيني إلى مناطق سكنية جديدة خاضعة للرقابة الأميركية-الإسرائيلية، مع خطط لبناء مستوطنات سكنية دائمة بتمويل خليجي لاحقاً. وبالتوازي، يعمل "الجيش" الإسرائيلي على إجبار مقاتلي المقاومة على الخروج فوق الأرض عبر عمليات مركزة في رفح وخان يونس، وتكشف هذه الخطة محاولة جذرية لإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والسياسي في قطاع غزة، لكن تبقى قدرتها على تغيير المعطيات على الأرض موضع شك في ظل التحديات العملية والسياسية القائمة. ما أسباب ذلك؟

يراهن الإسرائيلي، ومعه الأميركي ومن خلفهما الخليجي وقطيع المطبعين، على حيوية استثمار تبعات الحرب في الجانب المعيشي الإنساني اليومي، وهو جانب يؤرق الآباء والأمهات والعوائل في رعاية ما تبقى من أطفال غزة ونسائها، ولكن ما يغيب عن بال جوقة المخططين في اللعب على الوتر الإنساني البهيمي، أنه وإن كان نصف أهل غزة ربما أولويتهم الحياة، فإن هؤلاء وفق فرضية كهذه جربوا عصابات الفساد خلال سنتين من الحرب، ويعلمون افتقاد هذه العصابات وسيدهم الإسرائيلي أدنى حس إنساني، ولكل غزاوي ثأره الشخصي مع الإسرائيلي والعصابات التي يرعاها.

والأهم أن حواضن المقاومة الشعبية، وإن تضررت بفعل الإبادة الإسرائيلية أكثر من غيرها، إلا أنها ترتبط بأبنائها المقاومين المستهدفين وتحمل همهم صباحَ مساء، فهل تتنازل العوائل عن فلذات أكبادها من الشباب المجاهد من أجل لقمة طعام مغمسة بالدم والفساد والخيانة؟

في النتيجة، ليس ثمة صورة لهمدينة إنسانية كهذه يمكن التقاطها عبر الثغر الإسرائيلي، إلا باعتبارها عملية حشر وتكديس لأهالي غزة في مدينة خيام مترامية الأطراف على جدار الحدود مع مصر، وهي خطة إسرائيلية قديمة جديدة، تهدف بكل سذاجة إلى كسر الحاجز النفسي عند أهل غزة، كما عند الطرف المصري، وفرض واقع جديد يمكن من خلاله تحويل هذه الإقامة كمحطة مؤقتة نحو الهجرة التدريجية، بعد شل الشعور الوطني بين غزة وأهلها النازحين في فضائها للمرة الألف، ما يؤكد مستوى السذاجة في العقل الإسرائيلي الذي يرصد نبض النملة في صخور الجبال والوديان، ولكنه أوتي من كبره وغطرسته، وهو يعجز عن الوعي بحقيقة الانتماء الديني والوطني والإنساني لشعب يقدم القرابين بالآلاف ويبكي بصمت تهتز دونه جذوع الجبال.