فخ المرحلة الأولى ومستقبل اتفاق غزة
لماذا لم تنتقل الأطراف إلى المرحلة الثانية رغم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في الأولى؟ وهل يعود السبب إلى خلافات فنية تتعلّق بترتيبات المرحلة المقبلة؟
-
لماذا لم تنتقل الأطراف إلى المرحلة الثانية رغم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في الأولى؟
مرّ أكثر من شهر على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وفقاً لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن حتى اللحظة، لم تبدأ المرحلة الثانية من الاتفاق، رغم أنّ المرحلة الأولى نُفّذت بالكامل تقريباً.
فقد تمّ تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء، والعمل جارٍ على استكمال تسليم جثامين القتلى، بينما انسحب "الجيش" الإسرائيلي من مناطق النزوح المأهولة غرب القطاع إلى ما يُعرف اليوم بـالخط الأصفر، الذي يفصل مؤقتاً بين مناطق السيطرة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأهمّ:
لماذا لم تنتقل الأطراف إلى المرحلة الثانية رغم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في الأولى؟
هل يعود السبب إلى خلافات فنية تتعلّق بترتيبات المرحلة المقبلة؟
أم أنّ هناك نيّة سياسية مبيّتة لدى كلّ من "إسرائيل" والولايات المتحدة لإبقاء الوضع الراهن على حاله، وتحويل المرحلة المؤقتة إلى واقع دائم؟
هذا التأخير يفرض إعادة قراءة لمواقف الأطراف كافة، وخاصة الطرفين الأكثر تأثيراً في مسار الاتفاق: واشنطن و"تل أبيب"، اللذين يتحكّمان فعلياً بوتيرة التنفيذ وتوقيت الانتقال إلى المرحلة التالية.
يعدّ الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة الاختبار الحقيقي للاتفاق بأكمله، إذ تنصّ على استكمال الانسحاب الإسرائيلي شبه الكامل من قطاع غزة، بما يشمل المناطق الشرقية والجنوبية والشمالية التي لا تزال تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية.
وتهدف هذه المرحلة إلى إنهاء معظم الوجود العسكري الإسرائيلي، تمهيداً للانسحاب الكامل في المرحلة الثالثة، مع انتقال المسؤولية الأمنية والإدارية إلى هيئة دولية مؤقتة تُعرف باسم "مجلس السلام"، تمهيداً لبدء إعادة الإعمار وعودة النازحين.
غير أنّ هذه المرحلة لم تبدأ بعد، رغم استيفاء شروطها السابقة، ما يطرح تساؤلات حول مدى جدّية "إسرائيل" في الالتزام بالانسحاب، وحدود الدور الأميركي في دفع المرحلة أو تغطية تأجيلها.
التأخير الإسرائيلي في بدء المرحلة الثانية ليس مجرّد مسألة تقنية، بل خطة سياسية متعمّدة.
الحكومة الإسرائيلية دخلت الاتفاق تحت ضغط أميركي، لكنها حرصت على حماية مصالحها الاستراتيجية وتحقيق أهدافها الأساسية، التي تشمل:
* تهجير فلسطينيي غزة جزئياً أو بشكل كامل لإعادة تشكيل التركيبة السكانية والسيطرة على الأرض.
* تدمير قدرات المقاومة العسكرية المحتملة، خاصة في المناطق التي بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية.
* تحقيق ما وصفه رئيس الوزراء نتنياهو بـ "النصر الساحق" عبر إعادة ترتيب الوضع الأمني والسياسي وفق رؤية إسرائيلية أحادية.
وقد استخدمت "إسرائيل" ملف تسليم جثامين الأسرى كـورقة ضغط لمنع الانتقال إلى المرحلة الثانية، ثم أصبحت قضية بقايا المقاتلين في أنفاق رفح ذريعة لتأجيل الاتفاق برمّته.
هذا التأخير يخدم أهداف "إسرائيل" الأساسية من خلال:
أولاً، استمرار تدمير البنى التحتية للمقاومة في المناطق التي بقيت تحت السيطرة العسكرية، والتي تمثّل نحو 53% من أرض غزة، وبذلك تنفّذ "إسرائيل" من دون قتال نزع سلاح المقاومة على 53% من أرض غزة، قبل تنفيذ هذا البند في المرحلة الثانية، إن أجبرت على تنفيذها.
ثانياً، الإبقاء على المعابر مغلقة واتباع سياسة التقطير في إدخال المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الخيام والكرفانات، ما يزيد الضغط المعيشي على الفلسطينيين في القطاع، ويسهّل عملية التهجير مستقبلياً.
وعلى المستوى الاستراتيجي، تسعى "إسرائيل" من خلال المماطلة إلى:
١. تثبيت الخط الأصفر كمناطق فصل دائمة بين غزة و"إسرائيل"، وتحويل المناطق الفلسطينية التي تحت السيطرة الإسرائيلية إلى نموذج جغرافي وسياسي وأمني واجتماعي جديد، يتناغم مع الهندسة الإسرائيلية لغزة ما بعد الحرب، بما يجعل المرحلة الأولى واقعاً دائماً.
٢. فرض شروط مسبقة على الفلسطينيين، بما في ذلك مرونة أكبر من حركة حماس في قبول ترتيبات المرحلة الثانية، خصوصاً ما يتعلّق بـنزع السلاح وإعادة هيكلة النظام الحكومي في غزة.
وبذلك، تتحوّل المرحلة الثانية من فرصة لإنهاء الاحتلال إلى واقع تمّ فرضه إسرائيلياً بشكل دائم لا يمكن تغييره، بل باتت ممراً إجبارياً على الفلسطينيين يجب المرور به.
لا يقتصر التأخير على "إسرائيل" وحدها؛ فالموقف الأميركي غير مستعجل أيضاً في الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق.
ويرجع ذلك إلى عدة عوامل استراتيجية:
أولاً، غموض خطة ترامب: الخطة الأصلية فضفاضة وتحتوي على بنود عامّة، خاصّة فيما يتعلّق بالآليات التنفيذية، ولم تُستكمل التفاصيل المرتبطة بـمجلس السلام الدولي وصلاحياته الإدارية والأمنية في غزة.
ثانياً، استراتيجية الضغط على الأطراف الفلسطينية: التأخير الأميركي قد يكون مقصوداً لإنهاك حركة حماس وجعلها أكثر مرونة في الالتزام بالمرحلة الثانية، خاصة في ما يتعلّق بـنزع السلاح وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية.
ثالثاً، تعزيز الترتيبات العسكرية والأمنية: تداول الإعلام عن نيّة واشنطن لإنشاء قواعد عسكرية شرق غزة ضمن مناطق الغلاف، وربطها بقاعدة "كريات جات" الموجودة فيها غرفة العمليات الأميركية التي تراقب القطاع بالكامل منذ اليوم الأول للاتفاق.
رابعاً، تسهيل الانسحاب الإسرائيلي: هذا الترتيب الأمني يسمح لـ "إسرائيل" بإتمام انسحابها من القطاع من دون فقدان السيطرة الأمنية، أي أنّ الانسحاب يبقى شكلياً مع احتفاظ الولايات المتحدة و"إسرائيل" بقدرة الرقابة الكاملة على الوضع.
بهذه الطريقة، يلتقي التمديد الأميركي والإسرائيلي للمرحلة الأولى في هدف مشترك: إبقاء غزة معلّقة سياسياً وعسكرياً، وتحويل المرحلة الثانية من فرصة لإعادة البناء السياسي والأمني إلى أداة لإدارة الواقع وفق المصالح الإسرائيلية–الأميركية، مع إبقاء الفلسطينيين تحت ضغط دائم.
في ظلّ المماطلة الإسرائيلية المقصودة للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، المدعومة بموقف أميركي ناجم عن عمومية بنود خطة ترامب، يبقى واضحاً أنّ الانتقال إلى المرحلة الثانية يمثّل مصلحة فلسطينية حقيقية.
فهي المرحلة التي تفرض على "إسرائيل" دفع استحقاقاتها باستكمال انسحابها من غزة، وتفتح الباب لبدء عجلة إعادة الإعمار وعودة الحياة الطبيعية للفلسطينيين، بعيداً عن السيطرة الجزئية والإجراءات القسرية التي يفرضها التأخير الحالي.