نتنياهو وزيلينسكي خارج البيت الرأسمالي
القارئ لخطط السلام الترامبية في أوكرانيا وغزّة، يستطيع ببساطة إدراك ذهاب الولايات المتحدة إلى تحجيم إنجازات كل من نتنياهو وزيلينسكي.
-
تمكنت الرأسمالية الأميركية من التخلص من منافسين كبيرين داخل العالم الرأسمالي.
يمكن لهذا العنوان أن يتحوّل إلى حقيقة قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي ترامب. فالمشروعان الاستعماريان اللذان تقودهما "إسرائيل" وأوكرانيا تحوّلا إلى عبء على النظام الرأسمالي، بخاصة بعد أن حققا الهدف المرجو منهما. فالرأسمالية الأميركية أعلنت سيطرتها الاقتصادية على العالم من خلال تحويل روسيا، ودول الاتحاد الأوروبي إلى دول كبرى، لكنها ليست دولاً عظمى بأي شكل من الأشكال.
لقد تمكنت الرأسمالية الأميركية من التخلص من منافسين كبيرين داخل العالم الرأسمالي هما أوروبا وروسيا، وهذا جزء من المنافسة الرأسمالية الطبيعية، لكن عين سيدة العالم الرأسمالي على المنافس الأيديولوجي والاقتصادي في آن، والذي تمثله الصين.
معظم ما أصاب بلادنا منذ مطلع هذه الألفية يقع في سياق الحرب الصينية – الأميركية، وهي حرب تخوضها الصين على المستوى التجاري، فتتمدد في محيطها والعالم حتى أصبحت المصدر الأول في العالم، في حين تواجه الولايات المتحدة عجزها عن مجاراة الصين في الإنتاج، بقطع الطرق التجارية (طريقة الكاوبوي القديمة) بحروب تطلقها في المناطق التي تسيطر على الطرق التجارية الرئيسة في العالم، ثم تتقدم لحلها بخطط تضمن حضورها المباشر على الأرض، بعد أن كانت توكل هذه المهمة لحلفائها الإقليميين أو الدوليين.
الحديث عن العبء الاقتصادي الذي تشكله الحروب على الولايات المتحدة، هواية يمارسها الاقتصاديون الذين يتقنون لعبة الأرقام، ولا يرون ما وراءها. فالولايات المتحدة التي تستحوذ على نسبة 43% من أسواق السلاح العالمية، تجد أفضل زبائنها في الدول التي تخوض الحروب المصممة أميركياً، فالنظرة إلى قائمة الدول الأكثر شراء للأسلحة نجد أن أوكرانيا تتصدرها وتليها الهند، ثم قطر، فالسعودية، وتحتل الباكستان المركز الخامس، ومصر المركز السادس، والكويت المركز العاشر، والإمارات العربية المركز الحادي عشر. كما استطاعت الولايات المتحدة تعزيز حضورها المباشر في المنطقة سياسياً وعسكرياً خلال الحرب على غزّة، حيث أصبحت القوة الوحيدة القادرة على إدارة دفة المنطقة من دون منازع حقيقي.
في ظل هذا التفوق للرأسمالية الأميركية، هل يمكن أن تتخلى عن حليفين ساعداها على تحقيق معظم أهدافها في العالم؟ الجواب البسيط نعم، فالرأسمالية لا تعمل ضمن منظومة أخلاقية، بل ضمن منظومة مصالح، الجميع يدرك هذه المعادلة، وهي لا تتورع عن التخلص من أقرب عملائها في سبيل مصالحها، وهؤلاء العملاء الذين يدركون هذه الحقيقة سرعان ما يتنحون من تلقاء أنفسهم لتجنب مصير بشع يمكن أن يلقوه إذا تمسكوا بمواقعهم. هذا ما فعله شاه إيران، وحسني مبارك، وزين العابدين بن علي، وما لم يدركه السادات، وعمر البشير، ومحمد مرسي، فدفعوا حياتهم ثمناً.
كما أشرت سابقاً، الخصم الحقيقي للرأسمالية الأميركية هو الصين. الخصومة الأيديولوجية ليست بنكهة الحرب الباردة، بل على العكس، فالصين تقدم اشتراكية ذات أدوات رأسمالية ليست قادرة على إغواء الشعوب داخل المجتمعات الرأسمالية فقط، بل وإغواء كبار الشركات الرأسمالية العالمية، فأكبر مصنع في العالم لشركة تسلا للسيارات موجود في مدينة شنغهاي الصينية وهو ينتج 40% من إجمالي إنتاج الشركة من السيارات. وتمتلك مايكروسوفت أكبر مركز للأبحاث والتطوير خارج الولايات المتحدة في الصين، والذي يضم آلاف المهندسين المتخصصين في تطوير الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى، ويقدر عدد الموظفين الذين يعملون لدى شركة مايكروسوفت في الصين بنحو 9500 موظف.
لقد قامت الرأسمالية عبر تاريخها على قاعدتين رئيسيتين: التفوق الاقتصادي، والتحوّل إلى أيديولوجيا من خلال تبني مبادئ الليبرالية التي ترتكز إلى مبدأي الحرية والديمقراطية. التقدم الصيني يهدد التفوق الاقتصادي الرأسمالي ضمن المدى المنظور، وإذا أضفنا الهند إلى المعادلة، كونها تقع خارج النادي الرأسمالي التقليدي، فنستطيع القول إن سيطرة الرأسمالية التقليدية على الاقتصاد العالمي في طور الاحتضار. أما التفوق الأخلاقي المزعوم، فقد تهاوى أمام سطوة الكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي، التي نقلت الفظائع التي ارتكبتها وترتكبها الرأسمالية منذ مطلع هذا القرن وحتى اليوم. لعل ما قاله مراسل "بي بي سي" وهو يراقب تدفق اللاجئين الأوكران إلى أوروبا من أن "هؤلاء لاجئون مختلفون، إنهم بيض البشرة وشعرهم أشقر"، هذه الدهشة ستتحول إلى حالة من الصدمة مع توارد الصور القادمة من المجزرة التي ارتكبتها "إسرائيل" في غزّة برعاية وإشراف مباشر من الأنظمة الرأسمالية.
لقد تحولت الاحتجاجات ذات الطابع المطلبي، أو الإنساني لتأخذ طابعاً سياسياً، ينتقد الرأسمالية ذاتها، ويذهب إلى صندوق الاقتراع ليعطي صوته لخصومها. إن ظواهر مثل فوز مرشحين اشتراكيين ديمقراطيين في انتخابات البلديات وحكام الولايات داخل أميركا، وفوز مرشحة يسارية برئاسة جمهورية ايرلندا، تقرع الجرس عالياً بشأن تسلل الإيديولوجيات المعادية إلى الداخل الرأسمالي، وهذا ما دفع الكونغرس الأميركي إلى اعتماد قرار (بأغلبية 285 صوتاً مقابل 98 صوتاً) يدين الاشتراكية ويطالب بمنع تطبيق أي إجراءات اشتراكية داخل الولايات المتحدة، وذلك عشية اللقاء بين ترامب وممداني اللذين يعدان من أنصار الفكر الجماعاتي (من جماعة) سواء الاشتراكي اليساري، أو فكر جماعة ماغا اليميني.
في هذا السياق، وجدت الرأسمالية أنها تحتاج إلى التخلص من بعض الوجوه المرتبطة بالسقوط الأخلاقي الذي وسمها خلال الفترة الماضية، ويظهر نتنياهو ومن خلفه "إسرائيل" كبش فداء مثالياً في منطقتنا، وزيلينسكي كبشاً للفداء في أوروبا بعد أن ساعد الولايات المتحدة على تحجيم أوروبا وروسيا، إذ تبدو روسيا حليفاً من داخل البيت الرأسمالي قادراً على التعويض عن تراجع دور أوروبا داخل هذا البيت، ولعل هذا واحد من الأسباب التي تبرر تصميم أوروبا على الاستمرار في الحرب أملاً بهزيمة روسيا.
إن القارئ لخطط السلام الترامبية في أوكرانيا وغزّة، يستطيع ببساطة إدراك ذهاب الولايات المتحدة إلى تحجيم إنجازات كل من نتنياهو وزيلينسكي، وتأكيد قدرتها على رسم الخطوط السياسية النهائية في العالم، فمن الحديث عن الذهاب في مسار إنشاء دولة فلسطينية، والحديث عن قوة دولية داخل فلسطين وهو الأمر الذي رفضته "إسرائيل" عبر تاريخها، إلى فرض تسليم كييف بالسيطرة الروسية على القرم والدونباس، والموافقة على تخفيض تعداد الجيش الأوكراني.
في هذه السيناريوهات العالمية، لا بد أن نلاحظ غياب أي مشروع عربي حقيقي، في إشارة واضحة إلى استسلام النظام الرسمي العربي، فلا يبقى بين أيدينا سوى مشروع المقاومة الذي نستطيع القول بثقة إنه الوحيد القادر على وضعنا على خريطة العالم.