ظاهرة ممداني ضمن السياق الرأسمالي

تغيّر المزاج الشعبي الأميركي تجاه أشخاص يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني هو نتاج نضالات هذا الشعب وتضحياته خلال السنتين الأخيرتين، وهي ظاهرة مؤقتة قابلة للتحوّل إلى موقف دائم من خلال العمل السياسي المنظّم.

0:00
  • احتلّ فوز رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني مساحة إعلامية غير مسبوقة.
    احتلّ فوز رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني مساحة إعلامية غير مسبوقة.

احتلّ فوز رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني مساحة إعلامية غير مسبوقة لمثل هذا المنصب. السبب الظاهر هو فوز مهاجر مسلم بمنصب رئيس بلدية عاصمة الأعمال وأكبر المدن الأميركية، والاشتباك بين ممداني والرئيس ترامب والذي يصلح كمادة إخبارية قادرة على رفع نسبة المشاهدات على وسائل الإعلام الأميركية المدفوعةـ، وغير المدفوعة التي تعتمد على الإعلانات لتسويق برامجها. فالظاهرة إذاً إعلامية في جزء مهم منها، لكنّ الإعلام الغربي مرتبط بشكل صميم بدوائر السياسة ومراكز الأبحاث مما يعني إمكانية وجود معانٍ أعمق لهذه التغطية الإعلامية العالمية لمنصب غير سياسي.

خلال حملته فاز ممداني بترشيح الحزب الديمقراطي بعد هزيمة حاكم ولاية نيويورك السابق أندرو كومو، فقرّر كومو الترشّح كمستقلّ، لكنّ ممداني أعاد الكرّة وهزمه في الانتخابات العامّة إلى جانب المرشّح الجمهوري كورتيس سليوا. هذا السياق يدعونا للتساؤل عن سبب سماح الدولة العميقة، المعادية لممداني نظرياً، بهذا الصراع الثلاثي، فلو انسحب أيّ من المرشّحين الآخرين، خاصة سليوا، لكانت فرصة فوز ممداني صعبة جداً.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ ممداني يدين بفوزره لحصوله على 33% من أصوات يهود المدينة. تتعلّق هذه النسبة إلى حدّ كبير بالحركة اليهودية "ليس باسمنا" ظهرت بعد حرب غزّة ورفعت شعارات تفرّق بين اليهودية والحرب، وأنّ انتقاد "إسرائيل" ليس معاداة للسامية. حتى لا نغرق في نظرية المؤامرة، نستطيع القول إنّ الدولة العميقة الأميركية لم تمانع، على الأقل، في فوز ممداني.

قد يقول متابع للانتخابات إنّ الحرب على ممداني كانت شرسة، فقد وقّع ألف حاخام يهودي نداء موجّهاً إلى يهود نيويورك يطالبهم بعدم التصويت لممداني "الكاره لليهود"، وبالطبع شنّ الرئيس ترامب حملة علنية ضدّ ممداني واتهمه "بالشيوعية"، واعتبر أنّ "اليهودي الذي يصوّت لصالح ممداني خائن"، لكنّ المختص بالإعلام سيقول: "لا توجد دعاية سيئة"، فهذا الهجوم سيدفع أنصار ممداني من الأقليات والشباب إلى الاحتشاد يوم الانتخابات، والتصويت له، وسوف يدفع الكثير من المتردّدين إلى حسم مواقفهم. بالنتيجة نحن أمام معضلة، فهل كان فوز ممداني أحد مظاهر التحوّلات التي تشهدها الرأسمالية، أم أنّ الرأسمالية دفعت بممداني إلى الواجهة كوجه جديد من وجوهها، في محاولة لترميم صورتها الأخلاقية التي تضرّرت إلى حدّ كبير من جرّاء دعمها المباشر لحرب الإبادة في غزّة؟

قد لا نحصل على إجابة شافية وحاسمة عن هذا السؤال، لكن علينا الالتفات إلى بعض الأمور التي يمكن أن تساعدنا على فهم ما حصل.

أول هذه الأمور التوقّف عن النظر إلى ما يحدث في العالم من زاوية الموقف من قضايانا فقط، فللشعوب الأخرى قضاياها التي تدفعها لاتخاذ خياراتها. على سبيل المثال، سأل أحد الصحافيين عجوزاً يهودية عمرها 91 سنة عن سبب تصويتها لممداني فأجابت: أعجبني ما يقوله عن المواصلات والنقل، كما أنه سيتخذ إجراءات بخصوص الإيجارات وأسعار الشقق، ويحسّن من الخدمات المقدّمة للمسنين. 

تشير جميع الدراسات إلى أنّ الموضوع الاقتصادي – الخدمي هو المحرّك الرئيس في الانتخابات البلدية، ويليه موضوع انتشار الجريمة والأمن في الشوارع، في حين تتراجع قضايا السياسة الدولية إلى مراكز متأخّرة جداً. هذا لا يمنع أنّ حملة ممداني استعملت التعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية ومواقف ممداني المناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني (بحسب المفهوم الأميركي لهذه الحقوق) منذ أن كان طالباً جامعياً عندما أسّس فرعاً لمنظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين".

لنترك زهران ممداني يحتفل بانتصاره، ولنلقِ نظرة على من صوّتوا في الانتخابات له ولغيره. تظهر نتائج الانتخابات تصويتاً على سياسة دونالد ترامب الداخلية والخارجية، فقد انتخبت المحامية ذات الأصول الصينية ميشيل وو عمدة لمدينة بوسطن لتكون أوّل امرأة، وأوّل شخص غير أبيض ينتخب لهذا الموقع.

وتشتهر "وو" بأنها من المعارضين المعروفين للرئيس ترامب، وهي ناشطة معروفة في مجال حقوق الأقليات، والبيئة، وحقوق العاملين. كذلك انتخبت كارين باس عمدة لمدينة لوس أنجلوس وهي شخصية برلمانية ديمقراطية معروفة ومدعومة من نانسي بيلوسي السياسية الديمقراطية التي احتلّت موقع رئيس مجلس النواب الأميركي. وكان الديمقرطي براندون جونسون قد فاز بمنصب عمدة شيكاغو، وهو ناشط نقابي في اتحاد المعلّمين، وسبق أن شارك في تنظيم إضراب المعلّمين عام 2021. وأخيراً، تمكّنت الديمقراطية ابيغيل سبانبرغر من الفوز بمنصب حاكم ولاية فرجينيا خلفاً للجمهوري غلين يونغكين، وفازت الديمقراطية ميكي شيريل بمنصب حاكم ولاية نيوجيرسي متفوّقة على الجمهوري جاك سباتاريلي.

نحن إذاً أمام انتفاضة ديمقراطية على سياسات ترامب الداخلية، وهي انتفاضة تركّز على حقوق الأقليات ومعدّلات الجريمة وتحسين الخدمات، وقد استفادت هذه الحملة الديمقراطية من القرارات التي اتخذتها إدارة الكفاءة الحكومية برئاسة إيلون ماسك، إذ كانت النسبة الأكبر ممن فقدوا وظائفهم الفيدرالية من أبناء الأقليات، وبشكل خاص من السود.

يضاف إلى ما سبق القلق الذي يسود الأسواق والناجم عن سياسات وقرارات ترامب الاقتصادية. نستطيع القول إنّ فوز معارضي سياسة ترامب جزء من الصراع الديمقراطي – الجمهوري تحت السقف الرأسمالي، ولم نسمع من أحد الفائزين تصريحاً ضدّ بنية النظام الرأسمالي، فهم جميعاً يعملون من أجل إصلاح النظام الرأسمالي وليس الانقلاب عليه.

كلّ ما سبق لا يعني أنّ التغيير في الموقف من السياسة الخارجية الأميركية لم يكن أحد العوامل المساهمة في فوز معارضي ترامب. يمكننا أن نلحظ القلق الصهيوني مما يحدث فقد طالب يائير بالاخوفسكي بالانتباه لما أسماه "الجهاد الصامت" وهو المصطلح نفسه الذي استخدمه الصهيوني أفيغدور ليبرمان، كما اعتبر بالاخوفسكي فوز ممداني "تسللاً مدبّراً للأفكار المعادية للصهيونية إلى أهمّ مراكز القوة في الأوساط الثقافية والإعلامية"، وذهب الكاتب الصهيوني عوفر حداد بالاتجاه نفسه معتبراً فوز ممداني "بمثابة جرس إنذار لإسرائيل". 

 علينا خفض سقف "أحلامنا" بانعكاس ما سيفعله هؤلاء تجاه القضايا السياسية، وألا نحمّل ما يحدث معاني تتجاوز حقيقته، فالرأسمالية ما زالت قوية داخلياً وخارجياً، والأزمات ليست سوى وسائل تلجأ إليها، كلّ فترة، لتجديد جلدها من دون تغيير في جوهرها.

أما تغيّر المزاج الشعبي الأميركي تجاه أشخاص يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني فهو نتاج نضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته خلال السنتين الأخيرتين، وهي ظاهرة مؤقتة قابلة للتحوّل إلى موقف دائم من خلال العمل السياسي المنظّم داخل المجتمع الأميركي. أما الصراع مع الرأسمالية فيدور في مكان آخر تماماً.