وأخيراً: قدسية الإنسان

ما يحتاجه العالم اليوم رداً على كل الاستغلال البشع للإعلام وتشويه الحقائق وتضليل الناس هو حركة عامية لنصرة المظلومين في كل مكان أمام الطغيان والجبروت والاستكبار.

0:00
  • انتصار ممداني يؤكد أنَ الثقافة هي الأساس في صنع البشر والقيم والمواقف.
    انتصار ممداني يؤكد أنَ الثقافة هي الأساس في صنع البشر والقيم والمواقف.

في زمن ساد فيه الطغيان والظلم والعدوان وخفتت الأصوات التي تتجرأ على قول كلمة حق في وجه سلطان جائر، في زمن زاغت فيه الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، في زمن رضخ العالم لقرار ظالم بمساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، في زمن تمّ قتل مئات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الأبرياء المظلومين في غزة وفلسطين أمام أعين العالم برمته وبتواطؤ من أعتى قوة عسكرية في الدنيا، في زمن اتسم بسباق مسعور لحيازة المعادن الثمينة للصناعات العسكرية والتقنية وتدمير وإهانة معدن الإنسان وقدسية كرامته وإنسانيته وهو خليفة اللّٰه في الأرض، في زمن بلغ الغيُّ درجة بحيث يأتي مبعوث مغمور يهين كرامة أعلى مؤسسات بلد مستقل ذي سيادة وهو يزورهم وفي عقر دارهم، في هذا الزمن تجرأ صوت شاب مسلم مهاجر على أن يمسك بناصية نبض مدينة تضم بين ظهرانيها أتباع الديانات الثلاث من دون تمييز أو تفريق وتحدّى سياسات انتصرت للظالمين والقتلة والمجرمين ولعصاباتهم، متجاهلة كل القوانين والأعراف الدولية والشرعة الإنسانية مشكّلةً بذلك وصمة عار على مواقف بلدها وعلى الضمير الإنساني في هذه المرحلة من التاريخ.

في هذا الزمن وقف زهران ممداني، ابن الكاتب محمود ممداني، متشرباً أسس الحق والأخلاق والعدل ليبرهن للعالم أنّ الثقافة التي تربّى عليها وأنشأه عليها والده هي نصرة المظلومين، مهما كان الظالم عصيّاً على العدالة وإحقاق الحق.

وقف مع الشرفاء من أتباع كل الأديان ليقول إنّ معاداة الصهيونية الحاقدة المجرمة ليست معاداة للسامية وأنَ اليهود المؤمنين بقدسية حياة الإنسان والذين يُدينون المجازر والفتك بالأرواح البشرية البريئة يقفون معه ويعاضدونه ويشدون من أزره في وجه منافسيه الذين يمتلكون من المال والسلطة ما لا يمتلكه، ولكنه يمتلك من الإيمان بالحق والعدل ما يزلزل كل أموالهم وسلطاتهم. فانتصر صوت الحق حتى على الذي نَصَّب نفسه إمبراطوراً وملكاً على العالم برمته: يستبيح سيادة بلدانه وقرارت شعوبه وثرواتها ببوارج عسكرية يفاخر بانتهاكه حدودها وسيادتها، وبأنه الأقوى عسكرياً في العالم، ولذلك فهو يفعل ما يريد وينتهك القانون الدولي ويعطله، وينتصر لمرتكبي الجرائم بحق أطفال غزة الأبرياء، ويحتفي بهم ويولم لهم، غير مدرك أهمية قول الشاعر العربي:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت 

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

في مسار القتل والمجازر في غزة على مدى عامين ونيف، وفي مسار الإجهاز على المقاومة الشريفة والفتك بقادتها النبلاء والشرفاء، وفي مسار التآمر على فلسطين ولبنان وسوريا، وفي مسار عنصرية طائفية تفتيتية لكل الدول العربية، وفي مسار مخططات لتسليم المنطقة للمستوطنين الصهاينة من خلال مساندة القوة العسكرية الغربية لهذا الطغيان، تحرك الضمير العالمي والوجدان الإنساني ليقول للصهاينة لقد صادرتم قوافل سفن الحرية التي تنادت من كل أصقاع الأرض لنصرة أهل غزة المظلومين، فكيف لكم اليوم أن تصادروا صوتاً مجلجلاً ينطق بالحق، انطلق من عقر دار اللوبي الذي نسجتموه لمساندتكم في إيقاع أبشع جرائم الإبادة والظلم فيحق  أنبل شعب وعلى أطهر أرض.

إن انتصار زهران ممداني يؤكد حقائق عدة أولها أنَ الثقافة هي الأساس في صنع البشر والقيم والمواقف.

فها هو والد زهران، محمود ممداني، الكاتب والمفكر الحر، قد أنشأ ابنه على قيم الحق والعدل ورفض الظلم، وكتب ضد الاستيطان وضد سياسات التفتيت والعنصرية، ما يثبت أن مقاومة الظلم لا يمكن اغتيالها باغتيال قادتها، لأنها ستنبت قادة آخرين كما أنبتتهم أول مرة، وستستمر جيلاً بعد جيل، إلى أن يتمّ إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

الأمر الثاني هو أن القضية الفلسطينية والتي هي أهم وأشرف قضية في القرن الحادي والعشرين قد انتقلت بعد صمود أهل غزة الأسطوري من داخل فلسطين ومن داخل العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، إلى قضية عدالة عالمية تماماً، كما انتقلت قضية جنوب أفريقيا التي كانت تعاني من حكم الأبارثايد، إلى قضية دولية بفضل نضال وصمود نيلسون مانديلا ورفاقه وحزبه وشعبه.

الأمر الثالث، والذي نستنتجه مباشرة من الأمر الثاني، هو أي قضية فلسطين، لم تعد رهينة للمتخاذلين والمتواطئين والجبناء بل أصبحت قضية الشباب المؤمن بالعدالة وقدسية إنسانية الإنسان، كما لم تعد رهينة لنظام دولي لم يتبقَّ منه سوى الاسم. بل إن القضية الفلسطينية ستعيد هي تشكيل نظام دولي يضمن الدفاع عن المظلومين في أي بقعة من بقاع الأرض، من دون طائفية أو عنصرية أو غرور بقوة عسكرية، لا تقيم للأخلاق ولا للحق أو العدالة وزناً.

وسؤالي هنا هو: ألم يخجل الحكام والنافذون من زهران ممداني؟ ألم يخجلوا أنهم وعلى مدى عامين يتملّقون من يربّت على كتف مرتكب أبشع إبادة في القرن الحادي والعشرين ومرتكب أبشع المجازر في التاريخ البشري بحق الأطفال الأبرياء؟ أولم يخجلوا من فرانشيسكا ألبانيز، تلك المسؤولة الأممية النبيلة، التي خسرت عملها كي تروي بصدق حقيقة ما يُرتكب في غزة للعالم، بينما هم يقبعون في مناصبهم معتقدين أنها تهبهم الاحترام والحصانة؟ أولم يخجلوا من هذا الشاب زهران الذي وضع روحه ومستقبله على المحك كي ينتصر للمظلومين ويتحدى الطغاة ويُشهد اللّٰه والعالم أنه رفض أن يكون شاهد زور رغم التهديد والوعيد؟ هل أدركوا أنَ هذا الشاب هو الذي يمكن أن يوقف إعصار الطغيان من أن يصل إلى عقر دارهم وليس جبنهم أو تواطؤهم ودس رؤوسهم في الرمال، والذي لن ينفعهم شيئاً يوم يقرر الطاغية أن دورهم قد حان حينه.

لقد أدرك الاستيطانيون والمجرمون فوراً خطر ظاهرة زهران على إبراطوريتهم القائمة على القتل والإرهاب والمجازر، وعلى بث الفرقة  والعنصرية  بين البشر، فكتب نيسيم كاتس في "إسرائيل هيوم" في 5 نوفمبر 2025 أنَ النموذج الممداني خطر وجودي. طبعاً، هو خطر وجودي على الظلم والظالمين والمستقوين بالسلاح والقنابل على الأطفال والمقاومين، وهو خطر وجودي على الذين استباحوا كرامة الإنسان بطريقة غير مسبوقة، فدمّروا المساكن والمساجد والكنائس والمنازل، واغتالوا الإعلاميين بالمئات، كي لا ينقلوا الخبر ولا تنتشر صور إجرامهم المقيت. ولكنهم نسوا أو تناسوا أن عقل الشعوب الجمعي أذكى وأنقى من عقلهم الإجرامي والتآمري، مهما بلغ الذكاء الإصطناعي ذكاء، فخلقُ اللّٰه هو أذكى وأقدر على فرز الغث من السمين وكشف الطريق القويم.

ما يحتاجه العالم اليوم ردًا على كل الاستغلال البشع للإعلام وتشويه الحقائق وتضليل الناس، هو حركة عالمية لنصرة المظلومين في كل مكان من آثام الطغيان والجبروت والاستكبار، حركة تدافع عن أرض وشعب وقيادة فنزويلا، كما تدافع عن أرض وشعب فلسطين والسودان وليبيا وسوريا، حركة تدافع عن كل المظلومين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وتعيد للبشرية توازنها الأخلاقي وإيمانها بقيم الحق والعدالة والسيادة والتسامح، وتنبذ كل الحركات العنصرية والطائفية والتفتيتية التي اخترعوها ونشروها في بلداننا، بغية إضعافها وإبقائها تابعة لهم، لنهب ثرواتها وإذلال أهلها. ما أثبته انتصار زهران ممداني للمرة الألف في التاريخ البشري هو أن للباطل جولة، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن الله يحق الحق ويزهق الباطل ولو كره الكافرون.