واشنطن ودمشق... إدارة للملفات أم بناء للتحالفات؟
اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، يحتاج السوريون إلى بناء وعيٍ جمعي يدركون من خلاله أن معركة السيادة لا تُحسم بالبيانات ولا بالولاءات، بل بالقدرة على بناء "دولة مؤسسات" تُقنع العالم بأنها "شريك مسؤول".
-
تحديات انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
لم تكن زيارة الرئيس الشرع إلى البيت الأبيض حدثاً عادياً بكل تأكيد، إذ إنها تعدّ بمنزلة الإعلان عن تحوّل تاريخي ليس فقط في مسار العلاقات السورية-الأميركية، بل في إعادة "التموضع الاستراتيجي" لسوريا على الساحة الدولية.
دخول رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا إلى البيت الأبيض يمثل حدثاً يحمل طابعاً رمزياً بارزاً، بغض النظر عن طبيعة الملفات التي جرت مناقشتها.
هذا الحدث يعيد تشكيل ملامح العلاقات الدولية لسوريا، ويحدث تحوّلاً في "الهوية السياسية" السورية. فمنذ استقلال البلاد، ظلت الولايات المتحدة تُعدّ منطقة تتسم بالحساسية بالنسبة إلى السياسيين السوريين، وذلك بفعل التناقضات الإقليمية التي نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة التنافس بين المحاور المختلفة.
الزيارة لم تكن في إطار بحث العلاقات الثنائية بين البلدين، بل الانتقال إلى توقيع شراكة بينهما لمقاتلة تنظيم "داعش"، وما سيترتب على ذلك من تبعات يتوجب على الحكومة السورية توقعها والاستعداد لمواجهتها.
ثلاثة ملفات أساسية تريدها الولايات المتحدة من سوريا، محاربة الإرهاب، وتوقيع اتفاقية للسلام مع "إسرائيل" وحلّ مشكلة المقاتلين الأجانب. إضافة إلى حماية الأقليات وتشكيل حكومة جامعة وممثلة لجميع أطياف الشعب السوري تمثيلاً حقيقياً لا صورياً.
دخول الرئيس الشرع إلى البيت الأبيض يعكس تحوّلاً جيوسياسياً كبيراً في موقع سوريا، في الاستراتيجية الأميركية، وموقع سوريا في السياسة الدولية.
واشنطن تنظر اليوم إلى دمشق باعتبارها "عقدة جيوسياسية رئيسية"، وترى أنه من الضروري دمجها ضمن شبكة التوازنات الإقليمية المستحدثة.
تحديات انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب..
تم تأسيس هذا التحالف في عام 2014، بعد ظهور "داعش" وتمدده داخل سوريا والعراق، وضم 89 دولة، وستكون سوريا الدولة الـ 90 في هذا التحالف.
كانت "قوات سوريا الديمقراطية" هي الشريك الوحيد للتحالف الدولي، ولا تزال شريكاً حتى اليوم، بمعنى أن الولايات المتحدة لم تنقل تحالفها مع "قسد" إلى الحكومة السورية.
الحديث عن أن أميركا وضع "قسد" والحكومة السورية في كفة واحدة (كشركاء في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب) غير صحيح من وجهة نظري، وكل ما في الأمر أن تحالفها مع "قسد" بات مؤقتاً، ريثما يستكمل الجيش السوري استعداداته، وإلى حين استكمال اتفاق العاشر من آذار وانضمام "قسد" إلى الجيش السوري، وهو ما أكده توم باراك مرات عدة.
الأعضاء في هذا التحالف يندرجون في خمس مجموعات (حلفاء شاركوا عسكرياً-حلفاء قدموا مساعدات إنسانية-حلفاء عبروا عن تأييدهم للتحالف فقط-أنصار التحالف-الحلفاء من غير الدول).
حرصت الولايات المتحدة على أن لا يدخل الشرع إلى البيت الأبيض، إلا بعد إزالة صفة الإرهاب عنه، وهذا ما كان في قرار مجلس الأمن، الذي تضمن تأكيداً على سوريا ما بعد الحرب، وهو أشبه بقائمة من مطالب المجتمع الدولي تجاه سوريا.
يبدو أن المطلوب من سوريا أن تكون حليفاً من النوع الأول "المشارك عسكرياً"، وبالتالي فإن إعادة هيكلة وتدريب الجيش السوري وتسليحه ستكون من أولويات الولايات المتحدة.
يجري الحديث عن استعداد أميركا لتدريب 40 ألف جندي سوري في دول مختلفة مثل الأردن والسعودية والإمارات وتركيا، وتسليحهم ليكونوا قادرين على تنفيذ ما يوكل إليهم من مهمات.
تاريخياً، كان تسليح الجيش السوري روسياً بالدرجة الأولى وشرقياً بشكل عام، لكن هذا الجيش تم تدميره بأكثر من 400 غارة جوية نفذتها "إسرائيل" بعد سقوط النظام في سوريا.
وزارة الدفاع السورية الجديدة والتي تكوّنت عبر انضمام 18 فصيلاً مسلحاً، حصلوا على السلاح من دول لا تدور في الفلك الشرقي بكل تأكيد، وبالتالي فإن الجيش السوري الجديد تسليحه لم يعد شرقياً.
العقيدة العسكرية للجيش السوري الجديد عقيدة دينية تحمل نفساً جهادياً بكل تأكيد، وهو ما يزيد من صعوبة المهمة، وقبول الانضمام إلى تحالف دولي "صليبي" لقتال المسلمين.
تقرير "رويترز" تحدث عن وجود ثلاثة من قادة الفرق العسكرية السورية مدرجين على لوائح الإرهاب، وبالتالي يجب التخلص منهم، وهو ما سيشعر باقي القادة بشيء من عدم الأمان.
وهل ستقتصر المهمة على قتال "داعش"، أم ستطال كل ما هو "إرهابي" وفقاً للتصنيفات الأميركية، وهو ما يزيد من المخاوف حول "الدور الوظيفي" المراد لسوريا.
حديث السيناتور ليندسي غراهام عن ضرورة نزع سلاح حزب الله ومنع "الحضور الخبيث" لروسيا وإيران في سوريا، يجعلنا نخشى أن يراد زج سوريا في معارك نحن بغنى عنها، خصوصاً أن مساعي الحكومة تركز على "تصفير المشاكل" والتفرغ لإعادة إعمار سوريا.
اتصال وزير الدفاع الأميركي بنظيره العراقي والحديث عن توقع حدوث عمليات عسكرية في الداخل السوري يشير إلى أن علينا توقع التصعيد، وخصوصاً في منطقة التنف والبادية السورية حيث يوجد تنظيم" داعش"، وفقاً للتقارير الغربية.
الحديث عن ضرورة "تغيير النظام في إيران" خلال عهد ترامب أمر يزيد من تعقيدات المشهد، خصوصاً أن إيران ليست دولة عادية في المنطقة.
ما تسرب من لقاء الشرع مع ترامب، يظهر أنه كان لقاء بروتوكولياً، حرصت فيه كل من الولايات المتحدة وسوريا على صورة تاريخية تؤسس لمرحلة قادمة، وفي الوقت نفسه يظهر أن الابتزاز الأميركي لا يزال مستمراً.
الاتفاق الأمني بين سوريا و"إسرائيل"..
تدرك سوريا أن الولايات المتحدة تنظر إلى المنطقة بمنظار إسرائيلي، وبالتالي فقد انتهجت الحكومة الانتقالية سياسة ضبط النفس في وجه كل ما تعرضت له من استفزازات إسرائيلية.
الحديث عن التطبيع بين سوريا و"إسرائيل" أمر غير وارد، وكل ما يمكن توقعه هو توقيع اتفاقية أمنية على غرار اتفاقية عام 1974، تجنب سوريا الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على أراضيها، وتعيد القوات الإسرائيلية إلى مواقعها التي كانت موجودة فيها قبل 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
الحديث عن "الترتيبات الأمنية" يعدّ تحوّلاً جوهرياً يسعى إلى تثبيت "الشرق الأوسط الجديد" المستند إلى "تفاهمات" وليس إلى سلام بشروط واضحة.
وجود سوريا كدولة واحدة قوية أفضل لـ"إسرائيل" من وجود كيانات متصارعة وما يشكله ذلك من تهديد لحدودها. لكن وجود حكومة ذات "خلفية جهادية" أمر لم تتقبله "إسرائيل" بعد، خصوصاً أن درس السابع من أكتوبر ما يزال حاضراً في ذاكرتها السياسية، ولا تريد تكرار "خطيئة التعامل مع حماس".
ماذا سيقدم هذا الاتفاق لـ"إسرائيل"، إذا لم تتنازل الحكومة السورية عن الجولان (وهو ما لن يحدث على المدى القريب على الأقل)، خصوصاً أنها تفعل ما تريد في الجنوب السوري من دون حسيب أو رقيب.
الحديث عن وجود قواعد عسكرية أميركية في المنطقة قد يجعل "إسرائيل" تنسحب منها، إذ إن تلك القواعد ستكون قواعد صهيونية ترفع العلم الأميركي.
سوريا في الماضي دفعت ثمن المواجهة بين إيران و"إسرائيل"، ولا تريد اليوم أن تدفع ثمن المواجهة بين تركيا و"إسرائيل".
تركيا الأقرب إلى حلف "الناتو" وجدت أن مصالحها في سوريا باتت مهددة، وأنها باتت معنية بملء شيء من الفراغ الناجم عن تفكك محور المقاومة، خصوصاً أن الأطماع الإسرائيلية تهدد أمنها القومي.
تسوية ملف المقاتلين الأجانب..
قضية المقاتلين الأجانب والجهاد العابر للحدود باتت تقلق الكثير من الدول، وعلى رأسها الصين التي امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن المتعلق برفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب.
رفع العقوبات جاء بطلب وضغط أميركي، وقبول بالتعديلات الروسية والصينية على القرار، لأن أميركا تريد أن تؤكد دوماً أنها "لا تتفاوض مع إرهابيين"، وبالتالي كان يجب رفع العقوبات قبل دخول الرئيس الشرع إلى البيت الأبيض.
تعهد سوريا بمعالجة هذا الملف خلال الفترة القادمة أمر يحتاج أيضاً إلى مزيد من الحزم والقوة، خصوصاً أن عدداً منهم بات يشكل تهديداً للأمن والسلم الأهلي في سوريا، كما حدث مؤخراً مع كتيبة الفرنسيين.
زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بكين خلال الأيام القادمة ستضع تسوية ملف الآيغور على السكة، وتكون بداية لعلاقات جديدة بين البلدين.
تسليم عدد منهم والتخلص من آخرين، وإبعاد البقية عن المؤسسة العسكرية السورية، هو ما يمكن أن نراه في الأيام المقبلة، وخلال فترة لا تتجاوز الستة أشهر.
المشكلة أن عدداً كبيراً من هؤلاء محسوبون على تركيا التي استطاعت الاستثمار فيهم خلال السنوات الماضية، وبالتالي فإن الاقتراب منهم سيزيد من غضب أنقرة.
الحملات الأمنية الأخيرة التي نفذتها الحكومة السورية ضد تنظيم "داعش" والتي أدت إلى اعتقال 71 مسلحاً، وتصريحات المسؤولين السوريين عن قيام التنظيم بمحاولتي اغتيال للرئيس الشرع خلال الفترة الماضية، تؤكد أن الحكومة السورية ماضية في مواجهته والقضاء عليه.
بيان وزارة الداخلية السورية الذي تحدث عن الكشف عن كتيبة "انتحاريين" في حلب، يعد تطوراً في لغة الخطاب السياسي، وابتعاداً عن لغة "الشهداء والانغماسيين" وغيرها من التعابير الدينية.
اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، يحتاج السوريون إلى بناء وعيٍ جمعي يدركون من خلاله أن معركة السيادة لا تُحسم بالبيانات ولا بالولاءات، بل بالقدرة على بناء "دولة مؤسسات" تُقنع العالم بأنها "شريك مسؤول" وليس موضوعاً للمراقبة.
لقاء الشرع وترامب كان بمنزلة إدراج لسوريا في معادلة جيوسياسية تركز على إدارة الملفات وصولاً إلى بناء التحالفات، فواشنطن تبحث اليوم عن استقرار مؤقت في شرق أوسط مضطرب، باتت فيه سوريا مركزاً لهذه التحولات، ليس كفاعل رئيسي بل كميدان اختبار للنظام الدولي وقدرته على تشكيل شرق أوسط جديد من دون الحاجة إلى خوض حروب كبرى.