"آخر معارك الجنرال": سيرة الزعيم مصطفى البارزاني
ما تمتاز به هذه الرواية قدرتُها على اختراق قشرة القائد الأسطوري التي أحاطت بشخصية الزعيم، لتكشف عن الإنسان الذي يعاني، ويخاف، ويحلم.
لا شكّ أن للرواية، بوصفها جنساً أدبيّاً وفنّيّاً، قدرتها على اصطياد التفاصيل المنسيّة من حكاية حدثت في الماضي، أو أخرى لا تزال تحدث. كما أنّ علاقتها بالتاريخ تُميّزها عن غيرها من الأجناس الأدبية؛ وهي علاقةٌ تُتوَّجُ بالتفاعل الخصب. لذلك، فإنّ التاريخ والسرد كليهما ينسجان مادتهما من الخيال، ويعتمدان على الحادثة لصياغة مادتهما. وبينما ينسجُ المؤرّخ سردَهُ من الماضي، يدفع الروائي بالماضي سرداً نحو الحاضر ويبنيهِ وفق الزمن الراهن له. هكذا يخوض الروائي والمؤرخ تجربة الكتابة ضمن أساليب مجازية، تهكمية، أو واقعية، ولربما تكون رومانسية. بيدَ أنّ الفارق يظهر في عمل الروائي الذي يُعمّق الشبكة المجازية للغة، حيث تهيمنُ على السرد وظيفة جمالية بحتة.
وضمن هذا السياق، تحضر رواية "آخر معارك الجنرال" (دار النهار 2025) للروائي الكردي السوري جان دوست (1965) كعملٍ سردي يمزج بين السيرة الذاتية والتأمل الوجودي في حياة الزعيم الكردي: الملا مصطفى البارزاني (1903-1979 ). والغاية ليس لوصفه كشخصية سياسية وتاريخية فحسب، بل لكونه إنساناً حمل ذاكرة شعب، واحتمل في نهاية حياته جسداً أثقله المرض، وأنهكه سعيهُ في سبيل أمة مقهورة، وقضية مؤجلة. واللافت في اقتناص الكاتب مراحل حياة بطل روايته، عملُهُ على مكوّن الزمن على مدار النص، لأنَّ الزمن فيها يتراوح ما بين زمنٍ استباقي، استرجاعي يتوقف أحياناً ثم يتسارع، وبين زمنٍ آخر لدى شخصيات الرواية من طفولة الزعيم ومرافقته أولى شرارات الثورة، وصحبته المقاتلين والثوار، وحتى منفاه وتنقّله بين الدول لدعم قضية شعبه، وصولاً إلى أميركا حيث تحط رحال آخر معاركه مع العلاج ضد مرضٍ فتك بصحته.
ومن لحظة ولادته في منطقة بارزان (شمال شرق دهوك) عانى البارزاني من قسوة الحياة، وهنا نطلع على السجن الذي وُضع فيه مع والدته وهو طفل لمّا يتجاوز الثالثة من عمره. في سجن الموصل حيث سجنهم الوالي العثماني بتهمة المشاركة في انتفاضة الشيخ عبد السلام البارزاني (شقيقه الأكبر). هذه التجارب المبكرة، يصوغها جان دوست بأسلوبٍ لا ينقصه الألم، وهي في الوقت ذاته، شكّلت شخصية الزعيم وصقلت إرادته التي جعلتهُ في موضع القائد لثورات عديدة. بدءاً من ثورة بارزان الأولى وحتى قيام جمهورية مهاباد (1946) حيث خدم برتبة جنرال وشغل منصباً فيها.
غير أنّ البناء السردي للرواية يدفعنا إلى التأمّل بعيداً عن النسق التاريخي، والتركيز في الإطار الرمزي، وإلى جملة العناصر التي وضعها الكاتب كمؤثراتٍ تلفت نظرنا إلى القائد الإنسان، قبل النظر إليه بوصفه مقاتلاً وقائداً منفياً. فالمشاهد التي بدأت منها الرواية تتوالى على مساحات النص، وهي مشاهد حملت صورة القائد الذي أنهكهُ المرض، وهو يتمدد على سرير في مشفى أميركي بينما تنهال ذاكرته بما تعتملُ من ذكرياتٍ شكّلت روح الإنسان فيه. وتلك الرمزية التي استخدمها دوست كأوراق شجرة البلوط مثلاً، لم تكن سوى أدوات تُلمّحُ إلى ثبات الزعيم، وارتباطه بأرضه وجباله. إذ يطلب في مشهد مؤثر من حفيده أوراق بلوط يشمّها وهو يستعيد زمناً ما؛ قائلاً: "وُلدتُ تحت شجرة بلوط، وأريدُ أن أغفو بقربها" وهذه العودة ليست عودةً مكانية، ولا جغرافيّة، بل هي توق المرء إلى الجذور، وعودة روحية خالصة للذات نحو أرضٍ لا تغيب مهما بعدت المسافات واشتدت المنافي.
شكّل انهيارُ جمهورية مهاباد ضربة قاصمة للشعب الكردي، ودفعت القائد مع قواته إلى الانسحاب واللجوء إلى الاتحاد السوفياتي سيراً على الأقدام. ومن رحلة اللجوء رفقة 500 مقاتل نحو نهر آراس، وعبر جبال وعرة، نطلُّ على معاناة سكان الجبال وأهوال الحرب فيها حتى الحدود السوفياتية. وهنا، نستطلع عالمَ البارزاني كقائد عانى من الخيانات الدولية والإقليمية، لاسيما بعد اتفاقية الجزائر 1975 بين العراق وإيران التي أنهت الدعم الإيراني للثورة الكردية. إذ نسمع صوتهُ في لحظة وعي جارحة: "حتى النور قد يكون فخاً.." في إشارة منه إلى المصحف الذي أهداهُ مصطفى كمال للقادة الكرد بوصفه خديعة مختومة باسم الدين.
وما تمتاز به الرواية، قدرتُها على اختراق قشرة القائد الأسطوري التي أحاطت بشخصية الزعيم، لتكشف عن الإنسان الذي يعاني، ويخاف، ويحلم. فالرواية لا تقدم لنا بطلاً خارقاً، ولا تُمجّدُ لغاية التبجيل، إنما تحوم حول حياة إنسان واجه المرض، والمنفى، وقاسى مرارة الخيانة. لتمسي اللغة هنا أداة ليس لممارسة التوصيف، بل لنقل صوته، وآلامه، وأحلامه. وما أحاط بعالمه وقضاياه. وما رافقه من مؤامرات وخيانات، والكيفية التي لعبت فيها القوى الدولية دوراً كبيراً في تقويض إرادة الشعوب من خلال اتفاقيات "سايكس- بيكو" و"لوزان" وغيرهما من الاتفاقيات المبتذلة التي قسّمت المنطقة وخيّبت آمال الشعوب.
ولا شك أن الكاتب في عملٍ سردي كمثل الذي نطلع عليه، ينوس ما بين دور المؤرخ الذي يتوهم أنه يقدم نصاً مطابقاً لأحداث الماضي، وبين دور الروائي الذي يمضي بهذا الوهم ليجعله حيّاً في المجاز. إلا أنّ السرد يكمن في الخديعة، يكمن ويصنع المكائد لكليهما على حد السواء. للروائي والمؤرخ، وهنا لا بد من الإشارة إلى الثغرات التي أوقع بها السردُ بالكاتب. وذلك الغياب البيّن لأي صوتٍ أنثوي في عوالم الرواية، ولما يحيلنا إلى تلك العذوبة المبتورة في النص. فالقارئ بعيداً عن رحلة المنفى، وبمعزلٍ عن الحروب، وعن القائد الثابت في مواجهة آخر معاركه مع المرض، يبحث عن الراحة أيضاً، وينشدُ فسحة يُلقي فيها تلك الآلام إلى زاوية غائبة؛ زاويةٍ تسمح له بالتعرف إلى بطلٍ عاشق، على سبيل المثال، أو لمنعطفٍ يجسد الحب باعتبارهِ قوة دافعة. وبعيداً من حب القائد لقضيته وإيمانه بالحرية، إنّما ابتعد النص عن الإطار العاطفي العميق، وهو إطارٌ كان يمكن أن يُكمل صورة البطل بوصفه إنساناً قبل أن يكون قائداً، ليس لأننا كقراء اعتدنا أن يُزجَّ الحب في القصص، بل لأن للحبّ لغةً شفافةً تتواطأ مع المضمون، وتربك صورة الإنسان المثالي، وتأخذ في بناء الشخصية بعيداً عن موقع السارد الحذر، أو نسق الحكاية التاريخي. وإن كان ثمة عذوبة يلتقطها الحفر في بناء النص، فهي تلك التي رافقت صوت المقاتل الكردي "حسو" في رحلة لجوئه إلى الاتحاد السوفياتي، وفي رحلة عودته إلى أرضه أيضاً بعد سنوات طويلة. وهي عذوبة يحوم فيها الشوقُ إلى مؤنثٍ غاب عن النص، وأنقذهُ صوت "حسو" في حديثه عن الحرية والأرض اللتين حلّتا محلّ إغفال الحضور الأنثوي.
أما من ناحية البعد السياسي، فإنّ قراءةً في خريطة الألم لشعوب الشرق الأوسط تدفعنا للنظر إلى الرواية بوصفها شاهداً على زمن طويل من الخذلان والأمل. ولا شك فيه أن صوت صاحب "مجنون سلمى" هو صوتٌ يليق بالإصغاء، ليس من خلال خطاب سياسي، بل من خلال لغته الأدبية، وفي تجسيده لمرارة الخديعة، بحيث لم تكن فقط في مواجهة الزعيم للطائرات والاتفاقيات الدولية فحسب، ولا في السلاح، إنما في ثقة القائد بأصدقائه، وفي وهم صدقه بالعدالة التي سعى إليها. إلا أنه على الرغم من الغدر الذي كِيلَ لقضيته، بقي صاحب إرث حيّ في ضمير شعبه، ولكلّ من آمن بقضيته. وتلك علامة فارقة تُحسب للرواية، من حيث حضورها وثيقةً على نضال شعب سُرق حقه، وشهادةً في تاريخ الأدب الكردي تتجاوز فكرة الاعتراف بالحق، وتنقله إلى الفن ذاته؛ الفن الذي ينشدُ السرد ويؤرّخ صوت الإنسان التواق للعدل وللحرية.