"متاهة الأوهام" للمغربي أحجيوج: الكتابة الحقيقية هي دائماً فعل مقاومة

ما يجعل هذه الرواية مهمة هو تأكيدها أنّ الكتابة ليست مجرّد حرفة أو وسيلة تسلية، بل فعل وجودي جوهري.

  • "متاهة الأوهام" للمغربي محمد سعيد أحجيوج

عندما نتأمّل في الرواية العربية، نجدها غالباً ما تقدّم لنا عالماً واضح المعالم، بشخصيات محدّدة الهوية، وخط سردي يسير من نقطة بداية واضحة إلى نهاية منطقية. هذا النموذج المألوف هو ما يكسره الكاتب المغربي محمد سعيد أحجيوج عمداً في "متاهة الأوهام" (دار نوفل 2023)، ليس من باب التمرّد الفني فحسب، بل كي يعكس واقعاً أكثر تعقيداً وأصدق تعبيراً عن تجربة الكاتب في عالمنا المعاصر.

كثيراً ما يُنتقد التجريب في الرواية العربية باعتباره تقليداً أعمى للموضى الغربية، أو محاولة للتغطية على ضعف في السرد التقليدي. لكنّ أحجيوج في هذا العمل يُظهر أنّ التجريب ضرورة حتمية للتعبير عن واقع معقّد لا يمكن احتواؤه بالأشكال التقليدية.

فكيف يمكن للسرد الخطي التقليدي أن يعبّر عن تجربة إنسان لا يعرف إذا ما كان يعيش في الواقع أم في حلم أم في رواية يكتبها آخر؟ كيف يمكن للشخصية الواحدة أن تعبّر عن هوية مشتتة بين عدة أدوار وإمكانيات؟ هنا يصبح التعدّد في الضمائر والتداخل بين المستويات السردية ليس تقنية فنية فحسب، بل ضرورة للإمساك بحقيقة أعمق وأكثر تعقيداً.

إذا أردنا فهم جوهر هذا العمل، علينا أن نبدأ بالسؤال المركزي الذي يطرحه الكتاب الثالث من الرواية: "العثور على الكاتب المفقود". هذا ليس مجرّد حدث روائي، بل استعارة عميقة لحالة الضياع التي يعيشها المثقّف العربي اليوم. فالكاتب في الرواية لا يعرف من هو حقاً، ولا يتذكّر كيف وصل إلى ما هو عليه، وهو محاط بقوى تحاول تشكيل وعيه وتوجيه قلمه.

لا يمثّل هذا الضياع مجرّد حالة فردية، بل هو انعكاس لواقع أوسع يعيشه الكاتب العربي المعاصر، المحاصر بين سلطات متعدّدة: سلطة سياسية تريد منه أن يكون بوقاً لها، وسلطة تجارية تريده أن ينتج ما يُباع، وسلطة مجتمعية تفرض عليه قيوداً ثقافية ودينية. في هذا السياق، يصبح "العثور على الكاتب المفقود" مهمة تحرير الذات الإبداعية من كلّ هذه القيود.

ما يجعل هذه الرواية مهمة هو تأكيدها أنّ الكتابة ليست مجرّد حرفة أو وسيلة تسلية، بل فعل وجودي جوهري. عندما يُطلب من الكاتب في الرواية التخلّي عن مشروعه حول المهدي بن بركة واستبداله برواية تمجّد أعمال المخابرات، فإنّ هذا ليس مجرّد تغيير في الموضوع، بل محاولة لقتل الكاتب الحقيقي وإحلال كاتب آخر مُصنّع ومُوجّه.

يفهم أحجيوج جيداً أنّ الكتابة الحقيقية هي دائماً فعل مقاومة، حتى لو لم تكن سياسية بشكل مباشر. فمجرّد الإصرار على كتابة ما تؤمن به، وبالطريقة التي تراها مناسبة، هو في حد ذاته موقف سياسي وثقافي. هذا ما نراه في إصرار الكاتب على الشكل التجريبي المعقّد رغم اعتراضات الناشر، وفي رفضه كتابة الرواية "المطلوبة" رغم الضغوط الأمنية.

ربما أكثر ما يمكن أن يُثار حول هذا العمل هو صعوبة قراءته ومتطلّباته العالية من القارئ. هذا صحيح، والكاتب واعٍ لذلك تماماً. لكنّ هذا التحدّي ليس عبثياً، بل ينطلق من فلسفة واضحة: إذا كنا نريد أدباً يحترم ذكاء القارئ ويدفعه للتفكير، فعلينا أن نتخلّى عن نموذج الكتابة التي لا تفعل إلّا أن تعيد إنتاج المواضيع المستهلكة ذاتها، بالصيغة نفسها.

يطرح أحجيوج سؤالاً جوهرياً: هل مسؤولية الكاتب أن ينزل إلى مستوى القارئ، أم أن يرفع مستوى القراءة؟ طبعاً، هذا لا يعني أنّ كلّ عمل يجب أن يكون معقّداً ومتاهياً، وأحجيوج نفسه في روايته "كافكا في طنجة" (التي صدرت العام الماضي عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب) سلك طريقاً أسهل على القارئ، لكنه هنا، في متاهة الأوهام، يدرك أنّ هناك مساحة ضرورية للكتابة التي تتحدّى وتستفزّ وتدفع حدود التجربة القرّائيّة.

من أذكى ما في هذا العمل أنه لا يترك الحكم عليه للنقّاد فقط، بل يضمّن فيه أصوات النقد المختلفة. فنجد صوت القارئ التقليدي ممثّلاً في الناشر الذي يطالب بالبساطة والوضوح، وصوت السلطة ممثّلاً في العميد الذي يريد كتابة موجّهة، وصوت النقد الأكاديمي في المقابلة الصحفية المضمّنة في النص.

هذا التعدّد في الأصوات النقدية داخل العمل نفسه يُظهر وعي أحجيوج بالانتقادات المحتملة لمشروعه، ولكنه في الوقت نفسه يدافع عن موقفه من خلال جعل هذه الانتقادات جزءاً من البنية الفنية للعمل. إنه يقول للقارئ ضمنياً: أعرف أنّ عملي صعب، وأعرف الانتقادات الموجّهة إليه، لكنني أصرّ عليه لأسباب فنية وفكرية واضحة.

في النهاية، تنجح "متاهة الأوهام" في شيء أساسي: إنها تجعلنا نفكّر في طبيعة الأدب ووظيفته ومستقبله. قد نختلف مع اختيارات أحجيوج الفنية، وقد نجد صعوبة في متابعة تعقيداته السردية، لكن لا يمكننا تجاهل جدّيته الفكرية وصدق بحثه عن أشكال جديدة للتعبير.

هذا العمل يذكّرنا بأنّ الأدب الجادّ ليس مجرّد ترفيه أو هروب من الواقع، بل أداة للتفكير وإعادة تشكيل الوعي. وإذا كان ثمن ذلك تحدّي القارئ وإخراجه من منطقة راحته، فهذا ثمن يستحق الدفع.

"متاهة الأوهام" تستحق القراءة، ليس لأنها ممتعة بالمعنى التقليدي، بل لأنها ضرورية لفهم إلى أين تتجه الرواية العربية، وما هي الأسئلة الكبرى التي تواجه الكاتب العربي اليوم.

اخترنا لك