انفجار برميل البارود في مالي.. أسوأ كوابيس المنطقة

أياً يكن اتجاه معركة حصار قوافل الوقود، الدائرة حالياً على مقربة من العاصمة المالية باماكو، يطرح عدة خبراء ومراكز دراسات أفريقية سيناريوهات أكثر قتامة من المواجهة الحالية.

  • "القاعدة" على بعد خمسين كلم من العاصمة باماكو.

بين تطمينات المجلس العسكري الحاكم في البلاد، من أن الأوضاع تحت السيطرة، وتهديدات تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" المحسوب على "القاعدة"، بتشديد الخناق على العاصمة المالية باماكو، تعيش غالبية الشعب المالي، أزمة معيشية وإنسانية خانقة، بسبب ندرة موارد الطاقة وتعطل دورة الحياة الاقتصادية، إضافة إلى قرار الحكومة بتعطيل الدراسة وغلق مؤسسات حكومية عدة، لكن السؤال الأخطر الذي يطرحه المتابعون.. إلى أين تتجه الأوضاع في هذا البلد المنهك أصلاً بالأزمات السياسية والأمنية؟ 

"القاعدة" على بعد خمسين كلم من العاصمة باماكو

للشهر الثالث على التوالي، يفرض تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" المحسوب على تنظيم "القاعدة"، حصاراً مطبقاً على العاصمة المالية باماكو، التي تشهد أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة، بسبب ندرة الوقود، أزمة دفعت الحكومة إلى تعطيل الجامعات والمدارس، إضافة إلى شلل شبه تام في الدورة الاقتصادية في عموم البلاد، التي ترزح أساساً تحت وطأة ظروف صعبة أصلاً منذ عقود.

الأزمة المالية المستعصية، دخلت وبحسب عديد المتابعين للشأن الأفريقي، مرحلة خطرة، وغير مسبوقة، لجهة الأسلوب والتكتيكات العسكرية التي بات يتبناها تنظيم "القاعدة" في استراتيجية التوسع، وذلك من خلال الضغط على المجلس العسكري الحاكم، باستهداف الحلقة الأضعف في المواجهة، وهي الحاضنة الشعبية في المدن والحواضر الكبرى لدفعها نحو الاحتجاج والخروج إلى الشارع.

وما يجعل هامش المناورة أمام السلطة الحاكمة في باماكو صعباً، هو أن عمليات الاستهداف الموسعة لقوافل الوقود التي باشرها تنظيم "القاعدة" منذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بدأت تعرف منحى تصاعدياً خطيراً، خاصة أن تأثير هذه المناورة الميدانية، كبير جداً على الجانب العسكري والسياسي والمعيشي، في مقابل تكلفة عسكرية وبشرية أقل من المواجهات المباشرة مع الجيش المالي.

أولى التداعيات المباشرة لحرب استهداف قوافل الوقود، هي ضرب قدرات الفرق العسكرية المالية على التحرك، على اعتبار أن الجيوش التقليدية بحاجة ماسة للوقود أثناء تنفيذ عمليات الانتشار، وإيصال الإمدادات اللوجتسية والبشرية إلى خطوط المواجهة، وهو الأمر الذي تبدى خلال الأيام القليلة الماضية، في تراجع واضح لدينامية العمليات التي يشنها الجيش المالي ضد الجماعات الإرهابية في شمال البلاد.

سيناريو التفجير من الداخل..

التقارير والتحاليل العسكرية المتابعة للجماعات الجهادية في منطقة الساحل، تكاد تجمع أن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، إحدى أكبر أذرع القاعدة في مالي، لا يملك حالياً، لا النية أو القدرة على استهداف العاصمة المالية باماكو، مركز القرار السياسي والعسكري في البلاد، لكن ذلك لا يعني أن احتمالات هذا السيناريو معدومة كلياً.

في المقابل، يبدو أن رهان تنظيم "القاعدة" في الفترة الحالية، سيكون على استراتيجية حرب الاستنزاف، التي تقوم على توجيه ضربات موضعية مؤلمة في بعض المناطق الحساسة، مع استمرار عملية استهداف قوافل الوقود على الطرق الرئيسية، على اعتبار أن أولى النتائج السياسية لهذا التكتيك هي النجاح  في دفع دول غربية عدة إلى توجيه دعوة علنية إلى رعاياها بضرورة مغادرة البلاد، وهي الخطوة، وإن أعلنت الخارجية المالية تفهمها، إلا أنها في المقابل أعربت عن أسفها للطريقة التي تمت بها العملية، التي قدمت بحسب السلطات المالية، نصراً معنوياً للتنظيمات الإرهابية، إذ إن الهرولة الغربية لمغادرة مالي،  قدمت صورة مرعبة للرأي العام المحلي والدولي، عن الأوضاع الأمنية في البلاد.

وعلى النقيض من ذلك، حرصت موسكو على تقويض الرواية الغربية بخصوص حقيقة الأوضاع على الأرض في مالي، حين رفضت الانخراط في هذه الجوقة، وتأكيدها  استمرار التنسيق السياسي والتعاون العسكري مع باماكو.

رئيس المجلس العسكري الحاكم في مالي اسيمي غويتا، حاول التقليل من حدة الأزمة الحالية، حين خرج في تصريحات بمناسبة تدشين مصنع لإنتاج اللثيوم جنوب البلاد، ليعترف بوجود تحديات تواجه البلاد، سببها الرئيس تنظيم "القاعدة" الإرهابي، وأيضاً المؤامرات الخارجية التي تستهدف أمن  البلاد واستقرارها، مشدداً على قدرة الحكومة المالية على تجاوز هذه التحديات، موجّهاً في الوقت ذاته دعوة إلى الشعب المالي بضرورة التقشف في استهلاك الطاقة، إلا للضرورة.

لكن التحدي الأكبر الذي تحاشى غويتا التطرق إليه، هو حالة التململ والاضطرابات التي شهدتها البلاد، خلال الفترة الماضية، على خلفية إحباط أكثر من عملية انقلاب عسكري، والزجّ بقيادات وجنود في الجيش المالي في السجن، إضافة إلى غلق النشاط السياسي في البلاد بشكل كامل، وتعطيل عمل الأحزاب وتمديد حكم المجلس العسكري إلى فترة مفتوحة، من دون الإعلان عن خطة انتقالية للعودة إلى الحياة الدستورية وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة، وهي كلها عوامل رفعت بحسب عديد المتابعين من مستوى الاحتقان السياسي والاجتماعي في مالي، الأمر الذي يضعف الجبهة الداخلية الداعمة للسلطة في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، ويجعل من سيناريو انفجار الأوضاع في البلاد وارداً تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمعيشية.

أين يقف الخارج من الأزمة المالية؟

باستثناء الدعم الروسي الصريح، لا تبدو الورقة الخارجية في مصلحة المجلس العسكري الحاكم في مالي، بخاصة في ظل استعجال غالبية القوى الغربية  فرض حصار دبلوماسي وإعلامي من خلال تصوير الوضع في البلاد، على أنه يتداعى نحو المزيد من الخطورة، يضاف إلى ذلك القطيعة الشاملة بين باماكو ومنظمة "ايكواس"، لدول منطقة غرب أفريقيا، والتي تمثل العمق الجيوسياسي للأمن القومي المالي، في الجوانب الاستخبارية والأمنية والاقتصادية، والأهم الدعم السياسي والدبلوماسي.

وقطعاً إن تجميد عضوية مالي في مؤسسات الاتحاد الأفريقي، على خلفية تعطيل الحياة الدستورية في البلاد، يقلص أوراق التحرك الدبلوماسي والعسكري للسلطة المالية في مواجهة الأزمة الحالية، ويصبح الرهان كل الرهان على طبيعة تدخل موسكو لحماية حليفها في باماكو من خطورة الانهيار، وتتكرر خلال الفترة الماضية في تحليلات وتعليقات المتابعين للشأن الأفريقي أسئلة من قبيل، هل يمكن أن نشهد انخراطاً عسكرياً روسياً صلباً في الأزمة المالية، كما حدث في سوريا سنة 2015، أم أن الأوضاع اختلفت كلياً حالياً، وهذا السيناريو صعب التحقيق، حتى لو أرادت موسكو ذلك؟

انفجار برميل البارود في مالي .. أسوأ كوابيس المنطقة 

وأياً يكن اتجاه معركة حصار قوافل الوقود، الدائرة حالياً على مقربة من العاصمة المالية باماكو، يطرح عدة خبراء ومراكز دراسات أفريقية سيناريوهات أكثر قتامة من المواجهة الحالية.

وأخطر هذه السيناريوهات، هو انفجار برميل البارود في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، بفعل التوسع المرعب للجماعات الإرهابية في المنطقة، التي باتت تسيطر على مساحات واسعة على طول الخط الوهمي الممتد من سواحل المحيط الأطلسي لموريتانيا غرباً، وصولاً إلى أرتيريا وجنوب السودان شرقاً، امتداداً في العمق إلى دول أخرى، مثل نيجيريا، الكاميرون، موزمبيق، البنين، وعدة مناطق أخرى على شكل خلايا نائمة. 

ونقطة التحوّل الكبرى لتمدد هذه التنظيمات، بدأت مع موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول الساحل منذ سنة 2020، وما صاحبها من تحولات في أنظمة الحكم، انتهت بطرد القوى الاستعمارية وعلى رأسها فرنسا من المنطقة، وهنا كان لافتاً تزامن التهديدات التي أطلقها تنظيم "القاعدة" في شمال مالي بتوسيع عملياته، مباشرة بعد خروج آخر جندي فرنسي من البلاد، الأمر الذي دفع قادة دول الساحل إلى اتهام باريس بشكل صريح بالوقوف وراء تحريك ورقة الإرهاب.

لكن التوقف، سواء عند تقارير الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، أو مراكز الدراسات المتخصصة بظاهرة الإرهاب في أفريقيا بشكل عام، ومنطقة الساحل وغرب أفريقيا، تجعل العامل الخارجي، على خطورته، ليس العامل الأساسي في تغذية الإرهاب في دول المنطقة.

 بعض الباحثين يرون أن الجماعات التابعة أو المتحالفة مع تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، الذي ينشط وسط مالي ومنطقة الحدود مع بوركينا فاسو تستثمر في ما تعدّه "المظالم التاريخية" لعرقية الفولاني (الرعاة الرحل)، الذين يتهمون السلطات المحلية وميليشيات الدوغو (المزارعين المستقرين) بارتكاب انتهاكات بحقهم، من بينها عمليات التصفية الميدانية الجماعية. 

واللافت في استراتيجية تنظيم "القاعدة"، خلال السنوات القليلة الماضية، هو اتجاه إلى تبني مقاربة براغماتية، مرنة عقائدياً، من خلال استغلال سيطرته على بعض مناجم الذهب واليورانيوم  في شمال مالي، لتقديم إغراءات مالية لسكان المناطق والقرى الفقيرة، مع الحرص على التخفيف من التشدد في تطبيق ما يسمّيه بـ" الحدود الشرعية"، إضافة إلى ركوب موجة مطالب سياسية وتاريخية لبعض القبائل والإثنيات في مالي، لتقديم نفسه، على أنه يملك مشروعاً وطنياً في مواجهة نظام الحكم الاستبدادي في باماكو بحسب زعمه، الأمر الذي يفسر التمدد الجغرافي للجماعات المحسوبة على "القاعدة" في مناطق معتبرة في شمال البلاد.

يقابلها عدم وجود مقاربة سياسية واضحة للحكومة المالية في مواجهة هذا التحوّل في تكتيكات الجماعات التابعة لتنظيم "القاعدة"، والأخطر حسب التقرير الأممي المقدّم إلى مجلس الأمن في يونيو (حزيران) 2025 أن تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، بلغ درجة جديدة من القدرة العملياتية التي تمكنه من شن هجمات مركبة على ثكنات محصنة للجيش المالي باستخدام طائرات مسيّرة وأجهزة متفجرة يدوية الصنع وأعداد كبيرة من المقاتلين.

 وفي هذا السياق، كانت القيادة العسكرية المالية، قد اتهمت الاستخبارات الأوكرانية بتزويد الجماعات الإرهابية في شمال البلاد بالوسائل والتقنيات لتنفيذ هجمات غير تقليدية وخطيرة استهدفت الجيش المالي.

التطور العملياتي واللوجيستي للتنظيمات الإرهابية في مالي، ومنطقة الساحل بشكل عام، ليس هو التحدي الوحيد الذي تواجهه جيوش المنطقة، بل قد لا يكون هو التحدي الأخطر، إذا ما صحت التقارير والدراسات التي تتحدث عن ما يسمى بـ "التجنيد السائل"، عن طريق استعمال نماذج الذكاء الاصطناعي لتطوير "محتوى سياسي وأيديولوجي مخصص"، إذ إن كل مستهدف من الشباب الذين يستعملون وسائل التواصل الاجتماعي يتلقى رسائل ترويجية مصممة خصيصاً لنقاط ضعفه وأيضاً طموحاته، مثل ما نشرته بعض التقارير عن تلقي شباب في النيجر رسائل وفيديوهات معدلة بالذكاء الاصطناعي تصور لهم كيف يمكن أن تكون حياتهم "رغدة" في حال انضمامهم إلى هذه الجماعات، ويطرح هذا التحدي الاتصالي والثقافي بعداً جديداً في ساحات المواجهة مع التنظيمات الإرهابية، التي باتت تطور من إستراتيجيتها القائمة على مقاربة براغماتية، تقوم على استثمار كل الأوراق المتاحة للتمدد والتوسع بغرض السيطرة ومن ثمة فرض عقيدتها الأصلية.  

وبفحص خريطة توسع الجماعات الإرهابية، سواء المحسوبة على "القاعدة" أو تنظيم "داعش"، يمكن أن نلحظ أن مساحات جغرافية واسعة في منطقة الساحل ووسط وغرب أفريقيا باتت خارج السيطرة، مع الإشارة إلى أن تقارير الأمم المتحدة تكشف أن النشاط الإرهابي في أفريقيا تضاعف بنحو 300 في المئة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وأن المثلث الحدودي بين مالي وبوركينافاسو والنيجر مثلاً، بات يصنف على أنه من أخطر بؤر الإرهاب في العالم.

 كل هذه المؤشرات تستدعي من الذاكرة القريبة السيناريو الدموي المرعب الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط، حين استباح تنظيم "داعش" الإرهابي مناطق شاسعة في العراق وسوريا، وكانت تكلفة محاربته وطرده قاسية جداً، في حين تبدو الصورة في أفريقيا أكثر قتامة، بسبب أن جيوش الدول الأفريقية التي تتمدد فيها التنظيمات الإرهابية لا تمتلك الإمكانيات والقدرات الكافية للمواجهة كما كانت الحال في العراق وسوريا، وبالتالي قد تكون الأوضاع في القارة الأفريقية أكثر خطورة ودراماتيكية، ومن هنا  قد تكون المواجهة الدائرة حالياً على أسوار العاصمة المالية باماكو، مجرد فتيل قد يشعل برميل البارود.. وذلك أكبر كوابيس المنطقة.