روسيا وإعادة هندسة الأمن الأوروبي: الحرب الأوكرانية كمعركة نظام لا حدود‎

روسيا تؤمن بأن البيئة الأمنية الأوروبية لم تعد محكومة بقواعد ردع واضحة، بل بصراع إرادات سياسية وعسكرية يتجاوز مسألة الحرب الدائرة في أوكرانيا.

  • الحرب الأوكرانية كأداة لإعادة صياغة العلاقات الروسية–الأوروبية.
    الحرب الأوكرانية كأداة لإعادة صياغة العلاقات الروسية–الأوروبية.

تتعامل روسيا مع مسألة الحرب في أوكرانيا باعتبارها جزءاً من بيئة استراتيجية أعقد بكثير من مجرد صراع ثنائي على الأراضي أو النفوذ. فمن منظور موسكو، ترتبط هذه الحرب بجذور تمتد إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حين شهدت أوروبا إعادة تشكيل كاملة لمنظومتها الأمنية على نحوٍ لم يراعِ مصالح روسيا أو مكانتها كقوة كبرى.

وبالتالي، حتى لو وافقت روسيا نظرياً على تعليق العمليات العسكرية، وتجاوبت مع طروحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن عناصر التهديد المركزية لن تختفي، لأن مصدرها يكمن في السياسات الأوروبية والغربية الأوسع، وليس في أوكرانيا وحدها.

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، توسّع حلف شمال الأطلسي خمس مرات، ليضم أربع عشرة دولة جديدة في أوروبا الشرقية والبلقان.

هذا التوسع، الذي بدأ عام 1999 بانضمام بولندا وهنغاريا والتشيك، ثم بلغ ذروته مع انضمام دول البلطيق الثلاث عام 2004، كان يُنظر إليه في موسكو باعتباره تغييراً أحادي الجانب لمعادلة الأمن الأوروبي. فبالرغم من تعهدات شفهية قُدمت للقيادة السوفياتية في 1990 بشأن عدم "تحرك الناتو بوصة واحدة شرقاً" فإن الواقع جاء على النقيض تماماً، ما دفع روسيا — منذ عهد بوتين المبكر — إلى المطالبة بإطار أمني جديد يضمن مسافة آمنة بين حدودها وبين البنية العسكرية للحلف.

في هذا السياق، لم يكن المسار الذي لجأت إليه موسكو في ديسمبر 2021 تصعيداً بلا أساس، بل إعادة تأكيد لمخاوف روسية جرى تجاهلها على مدى عقدين. فقد طالبت الحكومة الروسية في وثيقتين رسميتين، بسحب قوات حلف الناتو من الجناح الشرقي والعودة إلى خطوط 1997، وضمان قانوني بعدم انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف، مع وقف نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا، وهي فئة من الأسلحة كانت مُنظّمة عبر معاهدة INF التي انسحبت منها واشنطن عام 2019.

أي أن روسيا حينها، لم تُطالب بأكثر من حقها في العيش كبلد آمن من دون تهديد حدودي، لكن ردّ واشنطن وعواصم غرب أوروبا، كان تجاهل المطالب الروسية إجمالاً، ورفضاً تاماً لإعطاء ضمان قانوني بعدم انضمام أوكرانيا أو أي دولة أخرى إلى الناتو. في ضوء هذا التعنّت الغربي، لم يكن أمام موسكو سوى التصعيد الاستباقي، وخلال أقل من شهر اعترفت روسيا باستقلال دونيتسك ولوغانسك، ثم أطلقت "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا يوم 24 فبراير.

تُدرك روسيا أنها صارت بالنسبة إلى كثير من القادة الأوروبيين "خصماً يجب كسره معنوياً وعسكرياً أولاً، ثم التخلص منه نهائياً"، هناك دول مثل ألمانيا وبولندا ودول البلطيق صارت تبني سياساتها الخارجية على فرضية مركزية مفادها أن "روسيا غريم استراتيجي دائم"، وقد ظهر هذا التوجه قبل سنوات، حين بدأت ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا إعادة هيكلة جيوشها وتطوير أنظمة مراقبة إلكترونية تستهدف أي نشاط روسي، أما بولندا فزادت ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 4% من الناتج المحلي، وهي أعلى نسبة في أوروبا، كما سعت لشراء منظومات دفاعية أميركية بعيدة المدى، في خطوات تصعيدية، كان من الطبيعي أن تعتبرها موسكو جزءاً من محاولة لتطويقها عسكرياً.

تلك التحولات تجعل روسيا تؤمن بأن البيئة الأمنية الأوروبية لم تعد محكومة بقواعد ردع واضحة، بل بصراع إرادات سياسية وعسكرية يتجاوز مسألة الحرب الدائرة في أوكرانيا.

ولذا، عندما يُكشف عن عمليات سريّة أو استخبارية أو سيبرانية يُنفذها الروس داخل دول أوروبية بعينها، فلا يصح النظر إليها باعتبارها تدخّلاً في شؤون الآخرين، بقدر ما هي عمليات دفاعية وقائية، هدفها الحدّ من قدرة تلك الدول على التأثير المباشر في الأمن الروسي.

روسيا من الداخل... ومعركة البقاء

وإذا كانت الضغوط الخارجية قد أعادت تشكيل حسابات روسيا الأمنية في محيطها الأوروبي، فإن أثرها الأكبر ظهر في الداخل، إذ اضطرت الدولة إلى إعادة ترتيب مؤسساتها بما يتناسب مع طبيعة صراع باتت تعتبره معركة بقاء.

فعلى المستوى الداخلي، فرضت الحرب إعادة هيكلة منطقية للدولة الروسية، فالجيش والأجهزة الأمنية – وهما عماد أي دولة تواجه تهديداً وجودياً – أصبحا أكثر كفاءة ونفوذاً، بينما تراجع دور البيروقراطية المدنية التقليدية لمصلحة سرعة اتخاذ القرار في زمن الحرب، وهذا ليس "انقلاباً داخلياً"، كما تروّج الصُحُف الغربية، بل تكيّف ذكي لدولة تخوض معركة مفصلية.

ومن الطبيعي أن يتوسّع نطاق تدخل أجهزة الأمن القومي في أمور كالسياسة الخارجية باعتبارها الجهة الأكثر قدرة على التعامل مع بيئة دولية تُعرّف روسيا بأنها "قوة صاعدة يجب عدم السماح لها بالاستمرار". فحتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، كان بوريس جونسون، رئيس الوزراء السابق في المملكة المتحدة، يتحدث في مؤتمر جماهيري حول أن: "روسيا تحت قيادة بوتين تمثّل الخطر الأكبر والأكثر حدّة لأمن أوروبا"، وقبل ذلك بسنوات، كان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، جوزيف دونفورد، يصُرّح بأن: "روسيا أصبحت التهديد الأكبر، ويجب التصدي لها".

في الوقت ذاته، وفي ضوء تلك الظروف المعقدة، نشأ تداخل واضح بين المؤسسة العسكرية والاقتصاد الروسي، خاصة مع اتساع نطاق العقود الدفاعية. هذه العقود لم تُستخدم فقط لدعم الجهد الحربي، بل أصبحت أداة لتنشيط الاقتصاد في المناطق الصناعية الكبرى، مثل يكاترينبورغ وقازان ونوفوسيبيرسك. ومن منظور موسكو، فإن هذا الدمج بين الصناعة والجيش ليس ظاهرة جديدة، بل هو امتداد لإرث صناعي يعود إلى فترة الاتحاد السوفياتي حين كان “المجمّع الصناعي العسكري” أحد محركات النمو الاقتصادي.

لماذا لجأت روسيا إلى "حروب الظل"؟

على مدار ثلاث سنوات، قدّم ضيوف الـ CNN وBBC تحليلاً مجتزأً للمهام التي تقوم بها الحكومة الروسية خارج حدودها بهدف حشد الرأي العام الدولي ضدها، على اعتبار أ نها تدير العديد من الأنشطة العسكرية والاقتصادية في الظل، وتسعى دوماً لإخفاء تحركاتها عن الأعين، لكن المفارقة أنهم تناسوا عامدين أن أغلب تلك المجهودات تهُدف إلى تحقيق غايتين:

الأولى، هي الأقل صعوبة، وتتعلّق بقطع الطريق على أجهزة الاستخبارات الغربية كي لا تتمكن من تجنيد مواطنين روس يعملون أو يدرسون في الخارج كجواسيس ضد بلادهم.

 الثانية، وهي الأخطر، وتدور حول كيفية الالتفاف على العقوبات الغربية، والتي لا تستهدف عقاب موسكو على الدخول في حرب مع كييف، بل تجويع الشعب الروسي ذاته، ودفعه إلى التخلّي عن الشعارات المتعلقة بالسيادة والكبرياء الوطني كافة .

في الواقع، أجهزة الدولة الروسية أمام تحدٍ غير مسبوق حتى تتمكن من الالتفاف على أكثر من 21 ألف عقوبة غربية، وهذا التحدي هو "حروب الظل الحقيقية". فحتى تتمكن الدولة الروسية من تصدير نفطها للعالم تُشغّل أسطولاً يضم أكثر من ألف ناقلة قديمة وغير مؤمنة، تنقل 70% من صادراتها إلى الصين والهند، مستخدمةً التحويل بين السفن وإطفاء أجهزة التتبع. كما تعتمد موسكو على دول وسيطة بهدف الحصول على السلع والتكنولوجيا الغربية المحظورة، فما يحتاجه الروس اليوم من ألمانيا مثلاً، يحصلون عليه عبر قيرغيزستان، وقد تسبب هذا في زيادة الصادرات الألمانية لهذا البلد القابع في آسيا الوسطى إلى 55 ضعفاً.

في الجانب المالي، لجأت روسيا إلى الذهب والعملات المشفرة (مثل العملة الرقمية A7A5 المدعومة حكومياً) والتصفية المتبادلة لتسوية المدفوعات من دون المرور بالدولار أو اليورو، إضافة إلى تطوير تصنيع محلي واستبدال المُعدات الغربية بأخرى صينية.

مجهودات الظل هي ما مكّنت موسكو من تحويل العقوبات إلى إزعاج مكلف لكنه غير قاتل حتى الآن، وصحيح أن ثمة تباطؤاً في النمو الاقتصادي بنسبة 10-12%، لكنها خسائر محدودة، وتعبير عن إنجاز حقيقي لمؤسسات الدولة الروسية التي يلوم عليها الباحثون الغربيون أنها تعمل في "الخفاء".

موسكو بين لندن وواشنطن

ترى موسكو أن الولايات المتحدة هي العدو الاستراتيجي الأول لروسيا بحكم قيادة واشنطن للناتو وتفوّقها العسكري والاقتصادي. ومع ذلك، يواجه الرئيس الروسي بوتين معضلة مختلفة مع بريطانيا، فمواقف لندن العدائية تجاه روسيا ثابتة وغير قابلة للتغيير تقريباً، على عكس الولايات المتحدة التي قد تختلف سياساتها نسبياً باختلاف الإدارات.

ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، قادت بريطانيا الموقف الأوروبي الأكثر صقوريّة تجاه روسيا، وكانت أول دولة غربية تزوّد كييف بصواريخ مضادة للدروع NLAW، وضغطت على بقية الدول الأوروبية لزيادة التسليح. كذلك تُعدّ وكالة الاستخبارات الخارجية البريطانية MI6 الأكثر نشاطاً وعداءاً لروسيا داخل أوروبا، خصوصاً بعد واقعة تسميم سكريبال في سالزبري عام 2018، وما تبعها من طرد دبلوماسيين واتهامات متبادلة. كما تلعب بريطانيا دوراً محورياً في تفكيك ومصادرة شبكات المال والأعمال الروسية في أوروبا، وقد استخدمت تلك الأموال لتمويل زيلنسكي ونظامه.

على المستوى التاريخي، هناك سلسلة من الصراعات المباشرة بين روسيا وبريطانيا، مثل حرب القرم والتنافس على آسيا الوسطى ودعم لندن للاجئين والمعارضين الروس عبر العقود. تلك الذاكرة التاريخية تجعل القيادة الروسية أكثر حساسية تجاه بريطانيا.

بريطانيا بالفعل أكثر إزعاجاً لموسكو لأنها أوروبية وأقرب جغرافياً، ولأنها عدائية بشكل مفرط وتستخدم أساليب استخبارية عند المواجهة، كبديل عن المواجهة الصريحة؛ أما الولايات المتحدة، فهي القوة العظمى الحقيقية، لكنها في الوقت نفسه قابلة للتفاوض أو للتوصل إلى تجميد مؤقت للصراع، خاصة إذا ضمنت أطراف أمنها ومصالحها كافة.

وترتبط تلك الرؤية، بوجود دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض، فبرغم أنه ليس محباً لبوتين ولا يقل عداء تجاه روسيا، إلا أنه يدير شؤون بلاده بعقلية رجل أعمال يركز على المكاسب والمصالح العملية فوق أي اعتبار أيديولوجي، وهو ما يتيح للكرملين صيغة واضحة للتفاهم أو التوصل إلى ترتيبات مؤقتة تقلل من حدّة الصراع.

وربما يكفي بالنسبة لواشنطن أن موسكو فقدت كل رصيدها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بغمضة عين، مع انهيار نظام بشار الأسد، الحليف الأهم والأكثر بروزاً في المنطقة على مدى عقود، والذي شكل دعامة أساسية لمكانة روسيا الدولية.

الحرب الأوكرانية كأداة لإعادة صياغة العلاقات الروسية–الأوروبية

في سياق الحرب الأوكرانية، صحيح أن دولاً أوروبية كثيرة تُعلن العداء لروسيا، وأن موسكو تحاول مواجهة ذلك بأقصى قوة، سواء عبر الحرب المباشرة أو عبر أجهزتها الاستخبارية.

لكن في الوقت نفسه، لا تزال روسيا حريصة على تنمية علاقاتها مع الدول الأوروبية التي ترغب في الخروج من المسار السياسي الذي تقوده لندن وواشنطن؛ فهي تُفضّل مواجهة من يعلن العداء ضدّها فقط.

ومن المهم الإشارة إلى أن الحرب الأوكرانية كانت امتداداً متأخراً لاحتجاجات الميدان الأوروبي عام 2014، والتي — وفق القراءة الروسية وعدد من التحليلات المستقلة — جرى توجيهها ورعايتها من قِبل قوى غربية لإسقاط الرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، الحليف الأقرب لموسكو. وكان الهدف من ذلك محاصرة روسيا، ومنع تمددها داخل أوروبا، وتعطيل الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية التي كانت في طور الإعداد آنذاك.

ومن ثمّ ترى موسكو أن جوهر المشكلة لم يكمن في سلوكها، بل في رفض قادة غربيين وقيادات نافذة داخل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لأي شكل من أشكال التوسع أو التقارب الروسي–الأوروبي

لهذا السبب لا تريد روسيا أن تكون محاصرة داخل القارة الأوروبية؛ بل على العكس، هي تسعى إلى علاقات حسن الجوار على أساس الندية وليس التبعية. ومن هنا تحاول روسيا — عبر إظهار قوتها في الحرب الأوكرانية — إعادة هندسة المشهد الأوروبي برمته، وإعادة تشكيل توازنات النظام الدولي، بهدف تأكيد قدرتها على حماية وجودها من تهديدات الآخرين، وحماية أمنها القومي، ومنع أي توسّع للناتو شرقاً.

وفي النهاية، تطمح موسكو إلى إقامة علاقات متوازنة وندية وغير عدائية مع الدول الأوروبية، مع الاحتفاظ بحقها في الردّ على أي تهديد مباشر.