الخطاب الانتخابي بين المشاركة والمقاطعة… من يملك الشرعية في انتخابات العراق 2025
الخطاب الانتخابي بين المشاركين والمقاطعين ليس تبادل لافتات ولا تراشق مفاهيم، بل هو إعادة تعريف للمشروعية الوطنية في لحظة تتشابك فيها خرائط الداخل والخارج.
-
بماذا يتأثر الخطاب الانتخابي في العراق؟
الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11-11-2025 تخرج من إطارها المعتاد بوصفها مجرد تنافس بين قوائم انتخابية، لتكون اختبار للمشروعية الوطنية في لحظة إقليمية حاسمة.
فهي أول استحقاق بعد تغيرات جوهرية حدثت في العراق والمنطقة معا؛ تغيرات لا يمكن لأي خطاب انتخابي وطني أن يتجاهلها.
فالمفروض ان مايطرح على الناخب العراقي ليس من يحكم؟ بل كيف يحكم لاسترداد السيادة في ظل إعادة تموضع القوات الامريكية في الداخل العراقي؟ كيف يحمى الداخل من ارتدادات اشتباك إقليمي مفتوح او عدوان اسرائيلي مؤشرات حدوثه بارتفاع؟ وكيف تدار العلاقة بين الهوية الشعبية المقاومة ومصلحة الدولة الوطنية.
في هذا السياق، يصبح كل تفصيل خارجي ضغطا مباشرا على صياغة الرسائل الانتخابية، وكل تفصيل داخلي محددا لطريقة تلقى الجمهور لهذه الرسائل ومقدار التأثر بها.
يمكن ترتيب المتغيرات الكبرى على النحو الآتي:
1- المتغير الداخلي الأبرز: اكتمال المرحلة الأولى من اعادة انتشار القوات الأميركية المحتلة داخل الأراضي العراقية، وما يرافقه من جدل واسع حول معنى السيادة و التوجه نحو بناء شراكات بديلة مع حلف الناتو.
2- المتغير الإقليمي الأخطر: ارتفاع مؤشرات قيام الكيان الإسرائيلي بالاعتداء على العراق أو على الجمهورية الإسلامية في إيران قبيل أو أثناء أو بعد الانتخابات.
3- المتغير الرمزي الوجداني: الذكرى الأولى لتفجيرات البيجر واستشهاد القادة والسادة، وعلى رأسهم وقدوتهم الشهيد الأسمى سماحة السيد حسن نصر الله ( رض )، بما يحمله ذلك من أثر عميق على خطاب محور المقاومة في العراق والمنطقة.
4- المواجهات العسكرية الكبرى: معركة طوفان الأقصى وما تلاها من معركة أولي العزم، ثم معركة الوعد الصادق 3 (معركة ال12 يوم) بين إيران والكيان الإسرائيلي، وهي أحداث أعادت رسم خريطة الأولويات الإقليمية، والعراق جزء منها.
5- المتغير السوري: تسليم الحكم في الجارة سوريا إلى أبو محمد الجولاني، بعد أن غير الموساد والسي آي إيه صفته ومهمته من إرهابي جوال إلى حاكم لسورية المطبعة.
6- المتغير اليمني: تكرار الاعتداءات الصهيونية على اليمن، واستمرار استهداف جبهته الشعبية والعسكرية.
7- المتغير القطري: تعرض قطر للغدر من إسرائيل بضوء اخضر امريكي عبر استهداف وفد حركة حماس المفاوض في الدوحة.
8- المسار الذكي: قلب النتائج و عكس المسار الذي قام به سماحة الشيخ نعيم قاسم بمخاطبة المملكة العربية السعودية علنا لفتح صفحة جديدة تحت عنوان المصالح المشتركة والعدو الواحد.
9- المتغير الكردي التركي: تسليم حزب العمال الكردي سلاحه لتركيا وما يثيره ذلك من غموض بشأن مستقبله ودوره ومناطق تواجده في المرحلة المقبلة.
هذه العناوين التسعة ليست خلفية للانتخابات، بل هي معطيات ضاغطة تؤثر في صياغة و طريقة الخطاب الانتخابي و التحرك السياسي.
المتغيرات الداخلية: بماذا يتأثر الخطاب الانتخابي:
1- مقاطعة التيار الوطني الشيعي ( الصدري ) بقيادة السيد مقتدى الصدر، ولا سيما بعد تغريدة وزير القائد، خصوصا الفقرتين 3 و6 منها، وهو متغير ينبغي أن تنظر إليه القوى السياسية الشيعية بجدية وإيجابية في آن واحد. هذه المقاطعة تعيد توزيع ثقل الصوت الشيعي، وتضع القوى المشاركة أمام خيارين؛ الاول تجنب استفزاز جمهور الصدر، والثاني هو ابتكار خطاب يستوعب قلقه من دون مصادرة قراره.
2- دخول أغلب قوى وأحزاب الإطار التنسيقي منفردة، على أمل الائتلاف لاحقا بعد معرفة حجم كل حزب وزنه الانتخابي، وهو ما سيحدد دوره وتأثيره بعد إعلان النتائج ومصادقتها.
الرسالة هنا ستتراوح بين إظهار الكفاءة الحزبية والتعهد بالتلاقي بعد المصادقة.
3- ارتفاع الخطاب الطائفي الهجومي ضد المكون الشيعي الأكبر من قبل بعض ما يسمى بالزعامات السنية، بما يعكس نزعة تصعيدية قد تُستغل انتخابيا. هذا يفرض على القوى الشيعية خطابا عنوانه، تفكيك الاتهام بالأرقام والإنجازات، لا بالمشاحنات .. لازالت القوى الشيعية في دائرة رد الفعل.
4- تشظي القوى الممثلة للمكون السني وتحولها من الخطاب الانتخابي الى دائرة الصراع المفتوح، ما يضعف قدرتها على الدخول بكتلة موحدة مما يؤثر في موقعها التفاوضي بعد الاقتراع.
5- مشاركة الأحزاب الكردية في ظل انسداد سياسي مستمر، نتيجة عجز الحزبين الرئيسيين عن تشكيل حكومة إقليم كردستان، إلى جانب الهجمة على المكون المسيحي عبر استهداف أهم رموزه السياسية والأمنية. وانعكاس ذلك على الخطاب الانتخابي للكرد والمسيحيين.
6- الحرب النفسية الإعلامية التي تشن على الداخل العراقي من جهات مرتبطة بالصهيونية العالمية، بما يزيد من تعقيد المشهد الانتخابي ويجعل معركة المعنى والرمزية لا تقل أهمية عن معركة الأرقام.
7- دخول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني السباق الانتخابي، بما يحمله من تأثير مباشر على الإطار التنسيقي وجمهوره، وهو ما يجعل موقفه حساسا بين منجز الدولة وتوازنات البيت السياسي الشيعي.
8- استمرار قضية خور عبد الله بلا حسم قانوني أو حكومي، لتبقى ورقة خلافية ضاغطة في الخطاب الانتخابي تستخدمها قوى مختلفة لإبراز ملف السيادة الحدودية.
9- رئاسة العراق الحالية للقمة العربية، بما يضيف مسؤوليات وأدوارا سياسية إضافية قد تنعكس على صورة القوى المتنافسة.
من يحسن توظيف هذا الرصيد العربي سيقدم نفسه كصوت بغداد القومي - مطلب امريكي.
10- عدم تمرير قانون هيكلية الحشد الشعبي، وهو متغير ذو أثر رمزي وسياسي وأمني عميق، يرتبط مباشرة بمستقبل أحد أهم مؤسسات ما بعد داعش.
ستغدو مواقف القوى من الحشد معيارا مختصرا لموقعها من الأمن الوطني ومفهوم الدولة الحامية وهذا له انعكاس مباشر على خطاب المؤيد والمعارض للقانون.
خطاب وطني يرتب الأولويات ويحمي الهوية ويثبت السيادة:
أي خطاب انتخابي برؤية وطنية إقليمية دولية يجب ألا يتجاوز أيا من هذه الأسباب والعناوين.
ومن المفروض أن تأخذ جميع القوى السياسية هذه المتغيرات بعين الاعتبار، مع تركيز خاص على الخطاب الانتخابي الوطني والسبب في ذلك إن خارطة الائتلافات ما بعد الانتخابات هي التي سترسم تشابك القوى تحت سقف البرلمان، و هي التي ستحدد شكل الحكومة القادمة.
وتلك الحكومة ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع كل هذه المتغيرات، وأحيانا مع نتائجها المباشرة التي ستؤثر في العراق.
المغزى هنا أن الخطاب الانتخابي المؤثر ليس سردية تلبية مطالب الناس نظريا، بل هندسة أولويات عملية تربط السيادة بالأمن والخدمات، وكيف تحفظ رمزية المقاومة والحشد الشعبي في إطار دولة قادرة وعادلة؟.
الخطاب الانتخابي الذي سيجب عن هذه الاسئلة وغيرها هو الخطاب الانتخابي المقنع.
قراءة في الدوافع… تحليل للأدوات… واستشراف للنتائج:
في المشهد السياسي العراقي، الانتخابات ليست حدثا ديمقراطيا عابرا، بل هي مقياس لنسبة الثقة في القوى السياسية.
مع التأكيد أن هذه الثقة أو فقدانها يتركز في القوى السياسية نفسها، لا في النظام السياسي كإطار عام.
يقف في الضفة الأولى المشاركون: من يرون في الصندوق الانتخابي وسيلة إصلاح ومحاربة الفساد أو حماية للمكتسبات، وأهمها التداول السلمي للسلطة. هؤلاء يحثون المقاطعين على المشاركة باعتبارها واجبا لحماية الدولة من الفراغ ونتائجه الكارثية.
وفي الضفة المقابلة المقاطعون: من يختارون الانسحاب احتجاجا أو رفضا لنتائج العملية الانتخابية ومخرجاتها التي يرونها سببا رئيسا في غياب التغيير الجذري في هيكلية وخطاب وسلوك القوى السياسية، وبالتالي غياب الإصلاح الحقيقي في مواجهة الفساد ومن هذه الزاوية يحثون المشاركين على المقاطعة بوصفها رسالة أخلاقية اصلاحية ضاغطة.
وبين المشارك والمقاطع، يقف الجمهور الرمادي، وهو شريحة واسعة تبحث عن خطاب انتخابي مقنع، إما للمشاركة أو للمقاطعة. وهذا البحث ليس ترفا سياسيا أو تنظيرا فكريا، بل هو شرط لفهم صحة الخطابين المتقاطعين في الرؤية والمتعاكسين في الاتجاه، هذا الجمهور هو المؤثر الحقيقي و من ينجح في إقناعه يحدد اتجاه النتائج.
دوافع المشاركة بين وعي المواطن ومسؤولية الدولة:
المشاركون غالبا لديهم واحد أو أكثر من الدوافع التالية:-
1- اعتقاد مؤسسي: ثقة نسبية بأن التحرك داخل قالب المحاصصة وقواعده يمكن أن يفكك القالب الامريكي للحكم في العراق ويغير الواقع تدريجيا.
2- مصلحة تكتيكية واستراتيجية: استحضار المخاطر والتهديدات التي مر بها العراق، والنتائج التي كسبها، يجعل الانتخابات الباب الشرعي لحماية تلك المكاسب محليا ودوليا.
3- منع العودة إلى الوراء: اعتبار الانتخابات ونتائجها الوسيلة الشرعية للتداول السلمي للسلطة.
4- غياب البديل: لا يوجد خيار آخر غير إجراء الانتخابات والمشاركة فيها لضمان استمرار النظام السياسي وشرعيته.
دوافع المقاطعة بين فقدان الثقة وتآكل الشرعية وصراع الهوية:
أما المقاطعون فقد تحركهم أسباب عدة:-
1- فقدان الثقة في نزاهة الاليات والنتائج بسبب اتهامات بالتزوير، شراء الأصوات، أو تحكم مؤسساتي يفرغ التنافس الانتخابي والعملية الديمقراطية من مضمونها.
2- اعتبار العملية رمزية: المشاركة تمنح غطاء لشرعية قوى سياسية لا تمثلهم ولا تلبي مطالبهم.
3- استراتيجية احتجاجية: تحويل الانسحاب إلى رسالة سياسية تستهدف الشرعية العملية والإعلامية والقضائية للانتخابات ومخرجاتها.
4- اليأس من الإصلاح: قناعة بأن المشاركة لن تحدث أي تغيير في محاربة الفساد أو التخلص من نظام المحاصصة الامريكي.
المشاركة أو الامتناع ليست سلوكا فرديا بسيطا؛ بل هي اختيار واختبار جماعي يترجم بمؤشرات ملموسة.. نسب المشاركة، وزن الشرعية، وموقع كل قوة في مفاوضات ما بعد النتائج.
أدوات الخطاب الانتخابي كيف تدار وبأي لغة تقنع
الخطاب الانتخابي في ظل كل ماتقدم ليس فقط ما يقال، بل أيضا كيف يقال، ومتى وأين يقال. لذا تصبح أدوات التعبير جزءا من المعركة:
أدوات المشاركين:
1- خطاب الشرعية: إعادة التأكيد على أن المشاركة شرط لحماية المكتسبات وبقاء الوجود السياسي الشرعي.
2- اللغة الخدمية: ربط التصويت بوعود قابلة للقياس في التربية، الصحة، الكهرباء، المياه، الوظائف، والإعمار.
3- خطاب القانون: تقديم المشاركة كالتزام بالإجراءات الرسمية، مع التأكيد أن تصحيح الأخطاء يتم عبر القنوات القضائية والدستورية.
أدوات المقاطعين
1- الخطاب الأخلاقي: تصوير المشاركة كتنازل عن الحقيقة المرتبطة بالفساد والهيمنة والتسلط المؤسساتي.
2- الرمزية الاحتجاجية: جعل الانسحاب فعلا ذا دلالة سياسية إذا تحول إلى حالة جماهيرية واسعة.
3- الاستفزاز التعبوي: استدعاء صور الظلم لتكثيف الضغط على العملية الانتخابية داخليا وخارجيا.
النجاح النسبي لأي خطاب انتخابي يعتمد على قدرة المتحدث في تحويل السردية المعنوية إلى أثر مادي ملموس، سواء عبر خفض نسبة المشاركة أو زعزعة ثقة الجمهور بالمؤسسات أو تعزيز شرعية المخرجات.
في المقابل، فإن اللجوء إلى أساليب التجريح والسب والشتم لا يعكس قوة الخطاب، بل ينتج صورتين سلبيتين في آن واحد، الاولى صورة سيئة للجهة التي يمثلها المتحدث بما يضعف مصداقيتها، و الثانية تعطي صورة انهزامية تعكس ضعف الدليل والحجة حيث يستعاض عن البرهان بالتخوين والتشويه والاستفزاز.
الوسائط بين الكلاسكية والحداثة كيف ستغير في الخطاب
في زمن تطبيقات التواصل الاجتماعي، تتقدم أهمية الوسيط أحيانا على مضمون الرسالة.
الفضائيات تصنع القصة الدرامية الطويلة المملة، لكن منصات الجيب ( الهاتف ) تصنع التأثير اليومي عبر مقاطع قصيرة تنحت المزاج تدريجيا. المشاركون يراهنون على الشاشة الكبيرة لاظهار الإنجازات، ثم يقطعونها إلى قصص تنفيذية صغيرة على الشبكات.
المقاطعون يركزون على المحتوى الرقمي سريع الانتشار: صور، شهادات، مقتطفات تعيد تشكيل الثقة أو تقويضها، حيث يعاد تدوير مشهد بصري واحد مئات المرات ليخدم غاية متعارضة كل مرة.
شرعية الانتخابات يحسمها الدستور لا نسبة المشاركة:
الشرعية السياسية تبنى بالاعتقاد، لكن القانون يحسم بالمادة والنص، دستور 2005 واضح؛ المادة 5 تقر بأن الشعب مصدر السلطات، والمادة 20 تكفل حق المواطنين في المشاركة في الشؤون العامة والانتخاب والترشح، والمادة 56 أولا وثانيا تحدد مدة مجلس النواب بأربع سنوات تقويمية تبدأ من الجلسة الأولى، وتوجب إجراء انتخابات المجلس الجديد قبل 45 يوما من انتهاء الدورة السابقة.. لا يوجد نص يربط صحة الانتخابات بنسبة مشاركة محددة.
هذا يعني:
1- انخفاض المشاركة لاي سببا كان لا يبطل النتائج قانونيا ما دامت الإجراءات سليمة.
2- المقاطعة الجماعية لا تسقط العملية إذا تحقق النصاب القانوني لاجراء الانتخابات وشروط الاقتراع والعد والفرز.
3- القضاء ينظر في الطعون الإجرائية، لا في تقديرات القبول او عدم القبول الشعبي التي تبقى شأنا سياسيا وإعلاميا.
ومع ذلك، يبقى للثقة أثرها فكلما انخفضت، ارتفعت كلفة الحكم على السلطتين التشريعية والتنفيذية لإعادة ترميمها بإصلاحات واقعية، لا بشعارات متكررة وغير عملية.
المشاركة والمقاطعة بين إعادة رسم المقاعد وانتاج التحالفات
المشاركة والمقاطعة ليستا مجرد خيارين سياسيين عابرين، بل اتجاهين متعاكسين يتركان بصمة مباشرة على توزيع المقاعد والائتلافات اللاحقة.
المقاطعة محصورة في البيئة الشيعية، حيث يتجلى الخطاب الاحتجاجي الرافض للعملية الانتخابية غير أن الأثر الأوضح يظهر في المحافظات المختلطة، حيث يصبح لتفاوت نسب المشاركة أو المقاطعة في كل قضاء وناحية وقرية أثر ملموس على مخرجات التمثيل.
ففي هذه الجغرافيا المختلطة، لا يقتصر الأمر على صراع داخلي في المكون، بل يمتد ليعيد رسم موازين القوى بين المكونات المختلفة.
أما المحافظات ذات الطيف الواحد، فإن التغييرات تبقى محدودة نسبيا. ومع ذلك، قد تنعكس نسب المشاركة فيها على ترجيح كفة حزب على آخر داخل المكون ذاته، من دون أن تغير صورة التمثيل الكلي.
يتضح هذا خصوصا في المحافظات السنية، حيث الاستنفار السياسي قائم، وزيادة المشاركة هناك لن تؤثر مباشرة في القوى الشيعية، لكنها ستعيد رسم خارطة التنافس داخل البيت السني، مع أثر غير مباشر على المناطق المختلطة.
من هنا، فإن التغير العددي في مقاعد المكونين الرئيسيين سيكون نسبيا ضئيل لكنه رغم محدوديته سيحمل قيمة تكتيكية كبيرة؛ لانه سيفتح ممرات جديدة للتحالفات البرلمانية بعد الانتخابات، ويؤثر في قدرة القوى السياسية المختلفة على سرعة تشكيل الحكومة أو تأخير تشكيلها.
لذلك فإن الخطاب الانتخابي أداة حاسمة في النتائج، فالأحزاب مطالبة بأن تترجم رؤاها بناء على تراكمات المشهد السياسي الممتد منذ 2003 وحتى اليوم.
أما المقاطعون، فخطابهم إن صدر بموضوعية وهدوء فإنه قد يحقق هدفه في زيادة عدم الثقة بالعملية الانتخابية، لكنه إن انزلق إلى التكرار والتحريض والتسقيط والتشويش سيكون غير مقنع، وقد يتحول إلى عامل عكسي يدفع المترددين ( الجمهور الرمادي ) نحو المشاركة بدل العزوف.
التجارب السابقة أثبتت أن الجمهور الرمادي - ولا يقصد هنا الجمهور المتحزب؛ فالمشارك لن يتأثر بخطاب المقاطعة، والمقاطع لن يتأثر بخطاب المشاركة - هو الذي يتأثر أكثر بخطابات المقاطعة أو المشاركة.
وهذه الكتلة البشرية الانتخابية الرمادية تشكل العنصر الحاسم في ترجيح كفة المشاركة او المقاطعة بناء على موضوعية ومصداقية وحجية خطاب كل طرف منهما.
وسط كل هذا التفاعلات المتغيرة هناك ثابت لن يتغير وهو أن الانتخابات ستجرى في جميع الأحوال، بغض النظر عن نسبة المشاركة.
وهذا الواقع يصب في مصلحة المشاركين أكثر من غيرهم؛ لأن أي محاولة لتعطيل الاستحقاق ستصطدم بسقف الدستور والقوانين النافذة، فضلا عن الممانعة الإقليمية والدولية، وفي المحصلة، فإن المقاطعين لن يجنوا مكاسب عبر التعطيل، بل قد يجدون أنفسهم أمام نتيجة معاكسة.. تجرى الانتخابات، يعاد إنتاج الخارطة السياسية، ويبقى خطاب المقاطعة في أحسن الأحوال مجرد موقف رمزي بلا أثر عملي.
السيناريوهات المحتملة: نتائج الخطاب الانتخابي
1- السيناريو الواقعي: الانتخابات ستجرى حتما بدعم الدستور والقانون والإرادة الدولية، بغض النظر عن نسبة المشاركة؛ ما يضع عبء الشرعية العملية على أداء الحكومة القادمة.
2- السيناريو المزدوج: ارتفاع المشاركة الشيعية في المحافظات المختلطة يحافظ على التوازن التقليدي، أما انخفاضها مع ارتفاع المشاركة السنية فقد يغير نسبيا في موازين التحالفات بعد الانتخابات.
3- السيناريو النمطي: بقاء الخريطة السياسية كما هي تقريبا، مع تعديلات طفيفة في الأوزان لا تمس جوهر التموضع؛ لكن هذه التعديلات قد تكون كافية لحسم تشكيل الحكومة.
4- سيناريو المرجعية المرجح: المرجعية العليا في النجف، التي طالما أكدت على التداول السلمي للسلطة وحثت على المشاركة كما في انتخابات 2021، قد تصدر موقفا يرجح كفة أحد الخيارين في اللحظة الحاسمة، خصوصا مع ادعاء كل طرف أنها تقف إلى جانبه.
الخطاب الانتخابي بين المشاركين والمقاطعين ليس تبادل لافتات ولا تراشق مفاهيم، بل هو إعادة تعريف للمشروعية الوطنية في لحظة تتشابك فيها خرائط الداخل والخارج.
المشاركون ملزمون بتحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات فعلية لمعالجة مطالب الناس اليوم وغدا؛ هكذا فقط تبنى الثقة وتحاصر دعاوى عدم المشاركة. والمقاطعون إن أرادوا تأثيرا حقيقيا، فعليهم بناء منهج احتجاج عقلاني يقرن النقد بخطط قابلة للتنفيذ، لأن العزلة الشعبية وحدها لا تصنع بديلا.
في نهاية المطاف، النجاح أو الفشل يتوقف على قدرة القوى السياسية على التنسيق بين الوسيط الإعلامي، والنص الدستوري، والواقع الخدمي الأمني.
من يوفق بين هذه الأبعاد سيحول يوم 11-11-2025 إلى نقطة انطلاق لإعادة ترميم الثقة، ومن يعجز سيضيف فصلا جديدا إلى ذاكرة الإخفاقات و هنا ينجح من يقنع الجمهور الرمادي بأن صوته ليس طلقة في الفراغ، بل مشروع دولة تتعلم من تجاربها وتواجه به مستقبلها.