الضغوط القصوى على لبنان.. التطبيع كأداة خنق سياسي واقتصادي
لبنان اليوم أمام مفترق خطير: إما أن يرضخ للضغوط ويخسر هويّته الوطنية، أو أن يصمد رغم الجوع والحصار، متمسّكاً بحقّه في السيادة والكرامة.
-
الضغوط على لبنان تهدف إلى إعادة تشكيل موقع لبنان ودوره في المنطقة.
في خضمّ الانهيار المالي والشلل السياسي الذي يعيشه لبنان منذ سنوات، تتكثّف الضغوط الدولية والإقليمية في اتجاه واحد: دفع لبنان نحو التطبيع مع "إسرائيل"، ولو بثمن هويّته الوطنية واستقلاله السياسي. هذه الضغوط، التي تأخذ أشكالاً متعدّدة، لم تعد خافية على الرأي العامّ اللبناني الذي بات يرى في "التطبيع الإجباري" جزءاً من استراتيجية خنق تُمارس بحذر، تحت شعارات دعم الإصلاح أو المساعدات الدولية.
الضغوط السياسية: التطبيع عبر المساعدات
لم تعد واشنطن تخفي رغبتها في إدخال لبنان ضمن منظومة "الشرق الأوسط الجديد"، حيث تصبح "إسرائيل" محوراً للعلاقات الإقليمية. فكلّ مبادرة أو مساعدة غربية للبنان، باتت مشروطة بشكلٍ غير مباشر بتقليص نفوذ المقاومة، والانخراط في "مشاريع تعاون إقليمي" تُمهّد للتطبيع.
وتظهر هذه المقاربة بوضوح في الخطاب الأميركي والأوروبي حول ضرورة "استقرار الحدود الجنوبية" و"الانفتاح على الفرص الإقليمية"، وهي عبارات دبلوماسية تحمل في طيّاتها مطلباً واحداً: كسر القطيعة مع "تل أبيب".
الضغوط الاقتصادية: الجوع سلاح للتطويع
منذ اندلاع الأزمة المالية عام 2019، ربطت المؤسسات الدولية المساعدات المالية بشروطٍ سياسية واضحة، أهمّها التزام لبنان بسياسات "الحياد الإقليمي".
في الوقت نفسه، تُستخدم الطاقة والغاز كوسيلة ابتزاز ناعمة. فمشاريع الربط الكهربائي وخطوط الغاز التي تمرّ عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى لبنان، تُقدَّم على أنها مشاريع "سلام اقتصادي"، لكنها في جوهرها جزء من مخطط إدماج اقتصادي تدريجي مع "إسرائيل" عبر وسطاء إقليميين.
الضغوط الأمنية: نزع المقاومة من المعادلة
في موازاة الضغوط الاقتصادية، يجري العمل على تحجيم دور المقاومة عبر قرارات دولية أو حملات دبلوماسية. فكلّ تصعيد على الحدود الجنوبية يُستغلّ لإعادة طرح مسألة "حصر السلاح بيد الدولة"، وهي صيغة تُخفي وراءها نيّة نزع سلاح حزب الله، تمهيداً لتهيئة المناخ السياسي للتطبيع.
"إسرائيل" تدرك جيداً أنّ أيّ اتفاق سلام مع لبنان لا يمكن أن ينجح في ظلّ وجود مقاومة فاعلة، ولذلك تسعى مع واشنطن إلى خلق واقع لبناني جديد خالٍ من معادلة الردع.
الضغوط الإعلامية والثقافية: التطبيع من بوابة الوعي
لم تعد الحرب على الوعي أقلّ خطورة من الحرب العسكرية.
منصات إعلامية ومنظّمات مدنية مموّلة من الخارج بدأت تروّج لخطاب "السلام كخلاص اقتصادي"، و"التعاون الإقليمي كطريق للنهوض". في المقابل، تُشيطن المقاومة وتُقدَّم كعقبة أمام "الازدهار والانفتاح".
إنها محاولة لتغيير صورة العدو في الوعي الجمعي، وتحويل فكرة التطبيع من خيانة إلى "فرصة".
المشهد الداخلي: بين الرفض الشعبي والانقسام السياسي
رغم الأزمة الخانقة، لا يزال المزاج الشعبي اللبناني رافضاً لأيّ شكل من أشكال التطبيع، خصوصاً في البيئات التي خَبِرت الاحتلال الإسرائيلي وعاشت نتائج العدوان.
لكنّ الانقسام السياسي الحادّ يفتح ثغرات يستغلّها الخارج. فبعض القوى ترى في التطبيع باباً للخلاص الاقتصادي، بينما تتمسّك أخرى بثوابت الموقف المقاوم الذي يعتبر "إسرائيل" عدواً لا شريكاً.
التطبيع كمشروع لإعادة صياغة لبنان
الضغوط القصوى على لبنان ليس هدفها اتفاق سلامٍ على الورق، بل إعادة تشكيل موقع لبنان ودوره في المنطقة. المطلوب دولة ضعيفة، منهكة، منزوعة الإرادة، تشكّل منطقة عازلة على حدود فلسطين المحتلة.
لكنّ تجربة اللبنانيين الطويلة مع الاحتلال والهيمنة أثبتت أنّ هذا البلد الصغير عصيّ على التطويع، وأنّ "السلام المفروض" لن يجد له موطئ قدم في ذاكرة مليئة بالمقاومة والصمود.
لبنان اليوم أمام مفترق خطير: إما أن يرضخ للضغوط ويخسر هويّته الوطنية، أو أن يصمد رغم الجوع والحصار، متمسّكاً بحقّه في السيادة والكرامة.
التطبيع ليس قدراً، بل خيار سياسي يُراد فرضه بالقوة الناعمة.
أخيراً: لبنان سيبقى مساحة مقاومة، ولن يتحوّل إلى ساحة انفتاح زائف تُكتب فيه نهاية تاريخه الحرّ؟