المقاومة: إرادة لا تُكسر
اليوم، بعد أربعة عقود على الاجتياح، لم تعد المقاومة ردّ فعل، بل أصبحت مشروعاً متكاملاً بهويته ورؤيته وامتداده الشعبي.
-
ما يميّز المقاومة في لبنان أنّها لم تكن يوماً مشروعاً عسكرياً صرفاً.
منذ اجتياح لبنان عام 1982، لم تغب المقاومة عن واجهة الأحداث بوصفها العامل الثابت في معادلات الصراع. ففي اللحظة التي أراد فيها العدو فرض معادلة إخضاع طويلة الأمد، وُلد جواب مختلف من قلب الجنوب امتدّ إلى معظم الجغرافيا اللبنانية: إرادة لا تُقاس بالعتاد، بل بالوعي والالتصاق بالأرض والقدرة على تحويل المظلومية إلى فعل تاريخي مستمر.
لم تنشأ المقاومة من فراغ، ولم تكن مجرّد ردّ فعل على الاحتلال، بل انطلقت من حاجة الناس إلى حماية بيوتهم وصون كرامتهم. ومع مرور السنوات، تحوّلت مرحلة ما بعد الاجتياح إلى مختبر قاسٍ لصناعة الوعي والهوية والقرار، فترسّخت تجربة تراكمية انتهت بتحرير عام 2000، ثم بصمود تاريخي في حرب تموز 2006 أسقط مقولات «الجيش الذي لا يُقهر» وفرض معادلات ردع جديدة على مستوى المنطقة.
كان التحرير لحظة لبنانية وطنية بامتياز، لكنه تحوّل أيضاً إلى حدث عربي ودولي كبير أثبت أنّ الاحتلال يمكن أن يُهزم، وأنّ التفوّق العسكري لا يمنح العدو حصانة أمام إرادة الشعوب. وقد أدرك العدو مبكراً حجم التحول الذي فرضته المقاومة، فلجأ إلى سياسة الاغتيالات والحروب الخاطفة ومحاولات تفكيك البيئة الحاضنة، أملاً بتعطيل مسار تراكم القوة أو ضرب بنية القرار داخل المقاومة.
ومع تطوّر المشهد الإقليمي، جاء "طوفان الأقصى" وما نتج عنه من تداعيات سياسية وعسكرية، ليثبّت حقيقة مركزية: كل مشاريع الردع الإسرائيلية، وكل الرهانات الدولية والإقليمية على إنهاك المقاومة أو تغيير قواعد الاشتباك، لم تُنتج سوى المزيد من التمسك بهذا الخيار. بل بدا واضحاً أن المقاومة ازدادت ثباتاً، فيما غرق العدو لا يخلو من ارتباكات داخلية عميقة على المستويات العسكرية والسياسية والاجتماعية.
وفي قلب هذا المشهد، جاءت شهادة القائد السيد أبو علي الطبطبائي لتؤكد جوهر هذا المسار. فالرجل كان من أولئك الذين فهموا أنّ طريق المقاومة محفوف بالتضحيات، لكنه الطريق الوحيد لحماية الأرض وصون الهوية. وقد مثّلت شهادته، كما شهادات القادة الذين سبقوه، دليلاً جديداً على أنّ استهداف القادة لم ولن ينجح في كسر المشروع، بل يزيده حضوراً وقوة، ويكشف حجم الفشل المتكرر في حسابات العدو الذي راهن على الاغتيال كسلاح يغيّر الموازين.
وما يميّز المقاومة في لبنان أنّها لم تكن يوماً مشروعاً عسكرياً صرفاً، بل تحوّلت إلى منظومة قيم متكاملة. فالصبر والإيثار والوعي والإيمان بقدسية الأرض ليست شعارات، بل عناصر تكوينية لصناعة القوة. ومن هذا المزيج اكتسبت المقاومة قوتها، ومن هذا الوعي الشعبي العميق نشأت بيئة حاضنة أثبتت على مدى العقود أنّها جزء لا يتجزأ من المعركة.
منذ عام 1982 وحتى اليوم، تغيّرت أدوات الصراع كثيراً. العدو طوّر أسلحته واستند إلى دعم دولي واسع، لكنه ظلّ عاجزاً عن اختراق العنصر الأعمق في معادلة المقاومة: الإنسان. الإنسان الذي يعرف لماذا يقاوم، ولمن يقاتل، وماذا يعني أن تُترك الأرض للمحتل. وفي ميزان التاريخ، ينتصر من يملك وضوح الهدف وصلابة القضية، لا من يمتلك السلاح الأكثر تطوراً.
لقد أثبتت العقود الماضية أنّ إرادة المقاومة ليست ظرفية ولا خاضعة لحسابات اللحظة. إنها إرادة تراكمية تنمو مع كل تحدّ، وتشتدّ بعد كل محاولة لكسرها، وتتجدد بعد كل استهداف. وكل محطة أثبتت أنّ البديل عن المقاومة ليس "السلام "ولا الاستقرار، بل الخضوع لواقع يفرضه احتلال يستند إلى القوة الغاشمة وتواطؤ الخارج ومرتزقة الداخل.
اليوم، بعد أربعة عقود على الاجتياح، لم تعد المقاومة ردّ فعل، بل أصبحت مشروعاً متكاملاً بهويته ورؤيته وامتداده الشعبي، ويقف العدو أمام الحقيقة ذاتها التي حاول إنكارها: المقاومة ليست جسداً يمكن اغتياله، بل روحاً لا يمكن قتلها. روح شعب لا يُهزم، لأنه ببساطة لا يقبل الهزيمة، وهناك من يراهن على القوة، وهناك من يراهن على الإرادة.
وهكذا يصبح العنوان خلاصة تجربة حيّة، لا شعاراً سياسياً:
المقاومة… إرادة لا تُكسر.