بين التحريض على الحرب الأهلية والتصدّي لها.. عالم برّاك في وجه التاريخ ورؤية الصدر

 إذا كان لبنان قد شهد عواصف منذ تأسيسه، فإنّه لا يمكن الوصول إلى صيغة سياسية مستقرّة ومستدامة فيه من دون حوار وتوافق وتفاعل بين جميع الأطراف.

  • الأفق الذي رسمه برّاك لا يدعو إلى التفاؤل والأمل (أرشيف).
    الأفق الذي رسمه برّاك لا يدعو إلى التفاؤل والأمل (أرشيف).

كعادته، هدّد مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط توم برّاك لبنان مجدّداً، من خلال التلويح بشبح الحرب الأهلية وبغزوٍ إسرائيلي في حال رفضت الحكومة اللبنانية الانصياع للصيغة الجديدة التي فرضها، على الرغم من أنّ حكومة بنيامين نتنياهو رفضتها.

وفي السياق عينه، شدّدت الإدارة الأميركية مرة أخرى على ضرورة نزع سلاح حزب الله الذي لبّى كلّ ما طُلب منه في اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتواصل الضغط في الوقت نفسه على الحكومة للموافقة على اتفاقيات أمنية مع "إسرائيل" من خلال برّاك تارةً، وأورتاغوس تارةً أخرى. وبموازاة التهديدات الكلامية، ينفّذ سلاح الجوّ الإسرائيلي سلسلة غارات يومية على الجنوب وجرود البقاع كما يواصل سياسة الاغتيالات بشكل مستمرّ. 

وليس بعيداً من ذلك، تأتي دعوة برّاك الحكومة اللبنانية إلى الاقتداء بالرئيس السوري "المنصّب ذاتياً"، أمير "جبهة النصرة" السابق الذي أصبح رجلاً محترماً بعد ما كشف قدرته على ارتداء البزّات الأوروبية ولعب كرة السلة، من خلال مقاطع فيديو نُشرت بكثافة في إطار حملة ترويجية إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، قبيل زياراته إلى أوروبا ثم الولايات المتحدة في مسعى لإعادة تلميع صورته.

وراء هذا التغيير الشكلي والتلوّن والتكيّف على طريقة الحرباء في محاولة تلميع سمعته عند حكّام الغرب ما يفسّره، وهو انخراطه في محادثات تهدف إلى تطبيع العلاقات بين بلاده و"إسرائيل" تحت عنوان "اتفاقيات أمنية" من المحتمل أن تؤدي إلى رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا.

هذه الانعطافة التاريخية، لم تمنع "إسرائيل" من قصف العديد من المواقع في مختلف أنحاء الأراضي السورية وتوسيع احتلالها. وعلى الرغم من إظهار دمشق حسن نواياها تجاه "إسرائيل" كل يوم، فقد صرّح وزير الحرب الإسرائيلي أنّ قواته لن تنسحب من جبل الشيخ الاستراتيجي وباقي الأراضي السورية المحتلة ناهيك عن الجولان الذي تمّ ضمّه إلى "إسرائيل" بدعم من إدارة ترامب.

الأفق الذي رسمه برّاك لا يدعو إلى التفاؤل والأمل: إن وقّعت الحكومة اللبنانية اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، على منهج سوريا، أم لم تفعل، ستستمرّ الاعتداءات. وفضلاً عن ذلك، لن تنسحب القوات الإسرائيلية من النقاط التي احتلتها في الجنوب بعد وقف إطلاق النار أحادي الجانب كما أكّد عدة مسؤولين إسرائيليين. إذاً، يمكننا اختصار اقتراح برّاك للشعب اللبناني ودولته بالمعادلة الآتية: الإذلال واقفين أو الإذلال منبطحين، وإن لم تخضعوا فسنعمل على إثارة الفتن والحرب الأهلية.

 فضلاً عن ذلك، صرّح برّاك قبل أسابيع بأنّ: "طرفاً يريد الهيمنة وطرفاً يجب أن يخضع والسلام وهم". ما يقوله برّاك هو أنّ شريعة الغاب هي البوصلة وسيدة الموقف في "إسرائيل" والولايات المتّحدة، ولا داعي للجوء إلى القوانين الدولية، فالأمم المتحّدة معهما. إنّ الجزرة الأميركية تترافق مع العصا الإسرائيلية، ولا مهرب من كليهما.

في عالم برّاك لا مَحلَّ لتسويةٍ عادلةٍ في المنطقة؛ فثمّة ساحة يهيمن عليها طرف، ويُفرض فيها على آخرين مصيراً ومستقبلاً ضيّق الأفق، فيكونون بمثابة فريسةٍ تتآكل كلّما شاء المفترس الأقوى الاعتداء عليها. هذا هو "الشرق الأوسط الجديد" الذي تريد واشنطن رسمه لصالح "إسرائيل". 

مع خسارته مصداقيّته يوماً بعد يوم، يبدو فعلاً أن برّاك لم يستمع إلى تصريحات الوزير غسان سلامة الذي نصحه بقراءة تاريخ لبنان المعاصر قبل التحدّث عنه، بل تجاهلها بكبريائه المعروف وتعنّته واستمرار تصريحاته المهينة التي تكشف جهل السفير الأميركي في تركيا رغم أصوله الزحلاوية في الصورة النمطية التي يريد إظهارها، ويحرّكها ذهنه العقاري. اقترح برّاك أن تكون المفاوضات بين الطرفين مباشرة بهدف صياغة "تسوية" تشبه إلى حدّ بعيد اتفاقية 17 أيار التي حاولت "تل أبيب" وواشنطن فرضها على لبنان بين أيلول/سبتمبر 1982 وشباط/فبراير 1984 حين أسقطتها المعارضة إبّان عهد أمين الجميل، والمتمثّلة آنذاك بحركة أمل والحزب التقدّمي الاشتراكي وحلفائهما من "المرابطون" والقوميين والشيوعيين والإسلاميين بدعم سوري وسوفياتي وإيراني.

عبرة تلك المرحلة أنّه في ذروة احتلال الجنوب اللبناني من "الجيش" الإسرائيلي، لم تتمكّن واشنطن و"تل أبيب"، على الرغم من كلّ ما امتلكتاه من نفوذ ووسائل ضغط، من فرض التطبيع على لبنان. فعلى الرغم من التهديدات والاغتيالات، وتصويت المجلس النيابي على اتفاق السابع عشر من أيار، حين كانت الغالبية الساحقة من النواب على استعداد لتلبية المطالب الأميركية والإسرائيلية، ظلّ التطبيع عصيّاً عليهم.

كانت الظروف يومها أكثر ملاءمةً لهما بكثير، ومع ذلك سقط الاتفاق في مزبلة التاريخ، قبل أن ينبشه برّاك من جديد، ظانّاً أنّ ما لفظه اللبنانيون يومها يمكن أن يُفرَض عليهم اليوم. لكنّ دروس التاريخ تُكشَف لمن يقرأه.

المستوطن الذي لم ولن يشبع، لا يريد احتلال الأرض وطرد سكانها فقط، بل يطمح أيضاً إلى إلغاء ثقافتهم ومحو تاريخهم إن لم يتمكّن من نهبه. فكما كان يقول الإمام موسى الصدر، للمعركة طابع ثقافي فريد ومميّز: المقاومة مسيرة ذات حدّين: سيف وقلم، وبالتالي فإنّ التاريخ ساحة يقاتل فيها وعليها ولها، وتترتّب عليه رهانات ضخمة. والمفارقة أنّ من يهدّد بأشباح الماضي لا يعرف أركانه وفصوله، والحقيقة أنّ برّاك وأمثاله يجهلون معنى التاريخ، وتحديداً تاريخ الحرب الأهلية في لبنان التي يلوّحون بها، وليس لديهم أدنى فكرة عن أسباب اندلاعها ومجرياتها وتداعياتها، ولا يدركون من تصدّى لها، ولا من أذكى نار الفتن الداخلية لاستمرارها!

أمام هذا الاستخفاف بالتاريخ وبالشعوب والتهديد بحرب أهلية جديدة في لبنان، من المفيد إلقاء نظرة تاريخية موجزة على رؤية السيد موسى الصدر، الذي يُعدّ أكبر محرّك للنهضة الشيعية اللبنانية في نهاية الستينيات والسبعينيات. فهو لم يكتفِ ببذل جهود من أجل إيقاف الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975 بل ثبّت أنّ التجربة اللبنانية بذاتها رسالة حضارية تمثّل نموذجاً نقيضاً لـ"إسرائيل" العنصرية. 

ومن اللافت للنظر أنّ الصدر الذي تميّز بوقوفه في وجه الصراع الداخلي، كان البذرة التي أنبتت "الثنائي الشيعي" الذي تسعى واشنطن و"إسرائيل" لقهره اليوم ولو بواسطة حرب أهلية دموية. فالهدف هو إخضاعه بالقوة خوفاً من تمدّد حركة المقاومة المتضامنة مع الشعب الفلسطيني والتي عرقلت إجرامها في إبادة غزة ولو بشكل محدود ومؤقت. إذاً، من المفيد التأمّل في ملامح معارضة الصدر للحرب الأهلية التي يلوّح بها برّاك، وعلى وجه الخصوص تجاه شعار "عزل الكتائب". إذ صاغ الصدر تحالفاً استراتيجياً بين "المحرومين من أرضهم" و"المحرومين على أرضهم"، وتحديداً بين حركة أمل وحركة فتح وتيارها الطلابي، لماذا رفض شعار "عزل الكتائب" الذي رفعه اليسار والعمليات العسكرية المترتّبة عليه بعد 13 نيسان/أبريل 1975 والتي أدارتها القوات المشتركة؟ 

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من استيعاب رؤية الصدر في ما يتعلّق بلبنان والتي أوضحها باكراً، على سبيل المثال عام 1962 أي بعد سنوات قليلة من وصوله إلى البلاد، عندما شرح أركان التشيّع والمرجعية لجمهور "الندوة اللبنانية" التي أسّسها ميشال أسمر، أي أمام مفكّرين مسيحيين ومسلمين وعلمانيين: "قالوا بلسان محمد (اختلاف أمتي رحمة).. والحقيقة أنّ التفاوت في الرأي وفي الأديان من أهمّ أسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود.. ونحن في لبنان، في هذه اللوحة النموذجية.. نتمكّن بكلّ سهولة أن نعبّر عن هذه الرسالة الإلهية السامية".

هذا المعمّم الآتي من قمّ والنجف، والذي امتاز عن غيره بانفتاحه واستيعابه لتحدّيات عصره، رأى شيئاً فريداً من نوعه في لبنان. عدّ لبنان نموذجاً حضارياً واجتماعياً وسياسياً متناقضاً تناقضاً تاماً مع الكيان الإسرائيلي، لا بدّ من تقويته وتطويره على الرغم من عيوبه ومشكلاته المعروفة التي حاربها وسعى إلى إصلاحها.

كما ناشد الصدر ورفاقه ومؤيّدوه عبر الصحف والتظاهرات والاجتماعات من أجل دفع الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها في ما يتعلّق بالدفاع عن الحدود الجنوبية وتنمية المناطق المهمّشة في الأرياف وضواحي بيروت، إضافة إلى إصلاح خلل نظامه الطائفي، بل في الوقت نفسه دافع عن لبنان بكلّ طاقته بما يمثّل من رسالة حضارية تساهم مساهمة كبيرة وملموسة في مقاومة "إسرائيل" بوجودها فقط، وذلك عبر تعايش جميع طوائفه وتفاعل مكوّناته المختلفة.

 بالنسبة إلى السيد موسى الصدر كان لبنان يمثّل النموذج المعاكس تماماً للنسق الإسرائيلي وللتسلّط العنصري القائم فيه، كما صرّح لجريدة النهار في 8 أيار/مايو 1975: "إنّ القضية الفلسطينية في أبعادها هي قضية لبنان، بل هي قضية لبنان في الدرجة الأولى، لأنّ الأخطار الناجمة عن وجود دولة عنصرية إلى جوار لبنان الوطن، تجعل من كيان إسرائيل خطراً مستمرّاً على لبنان.. ولأنّ هيكلية الحكم في لبنان وهيكلية الحكم في إسرائيل تتناقضان ولا يمكن تعايشهما..".

كما تؤكّد "إسرائيل" نفسها منذ تأسيسها، فإنّ هذه "الدولة" قامت على هيمنة مكوّن طائفي واحد على حساب الطوائف والإثنيات الأخرى، التي لا يُسمح لها سوى بشغل مناصب رمزية وهامشية في الهيكل السياسي والعسكري، بينما تبقى السلطة الفعلية محصورة في يد فئة واحدة فقط. 

 تحدّث الصدر كثيراً عن هذا الكيان وأسسه وخطورته، وشدّد على أهمية لبنان الحضارية في وجه هذا المشروع الاستيطاني الذي يفرض هيمنة فئة مستوردة على كلّ أبناء الأرض الأصليين.

أمام هذه التحدّيات دعا إلى التعاون بين المسيحيين والمسلمين، والتنسيق بين اللبنانيين والفلسطينيين، من أجل مقاومة هذا الاستعمار. على سبيل المثال في مقابلة لمجلة "الأسبوع العربي" البيروتية في 5 أيار/مايو 1975 قال: "الانفجار ليس في مصلحة أحد، إلا العدو الصهيوني.. هذا الصراع الطموح وعملقته في لبنان، ورسالته الحضارية تفرض عليه تبنّي القضية الفلسطينية أمام التحدّيات الصهيونية عالمياً.. إسرائيل، بكيانها الصهيوني، خطر على لبنان ومستقبله واستقراره السياسي وازدهاره الاقتصادي، وحتى على استقلاله وحدوده، فبقدر ما يشكّل الوجود الصهيوني خطراً على القضية الفلسطينية يشكّل خطراً على القضية اللبنانية".

"ثم إننا في لبنان مسلمين ومسيحيين، ضدّ تهويد القدس وفلسطين فلنا فيها مقدّسات وحرمات. ونحن المؤمنين نرى في عمل إسرائيل، حين تقول إنها تنفّذ وعد الله بالنار والدمار والظلم والطغيان، خروجاً على كلّ تعاليم الله المقدّسة".

اجتمع الصدر في رؤيته عن لبنان مع كمال جنبلاط، الزعيم التاريخي للحركة الوطنية، الذي رأى أيضاً في هذا البلد نموذجاً يتناقض مع الكيان الإسرائيلي كما كتب في كتابه "من أجل لبنان".

وانطلاقاً من هذه القناعة، رفض الانخراط في الحرب الأهلية بعد الاعتداء على ركاب "البوسطة" في عين الرمانة في 13 نيسان/أبريل 1975 وناشد من أجل توجيه جميع البنادق إلى الجنوب. استنكر الجريمة وطالب بمحاكمة المسؤولين، ولكنه رفض شعار "عزل الكتائب" الذي رُفع في 16 نيسان من قبل اليسار والانخراط في المعارك من أجل الحسم العسكري الذي اعتمدته "الحركة الوطنية" كورقة عمل في بداية الحرب. اعتبر الصدر أنّه لا يمكن استبعاد أيّ مكوّن سياسي أو طائفي رئيسي من المشهد الوطني، وأنّ الحوار يبقى السبيل الوحيد لحلّ الخلافات بين اللبنانيين. في منطقه، لم يكن ممكناً أن تستقرّ البلاد وأن تُعالج مشكلاتها مع محاولة إقصاء مكوّن أساسي عن الساحة، وعن المشاركة في السلطة. 

بين عامي 1969 و1975، ولا سيما خلال المهرجانات والتجمّعات التي نُظّمت عام 1974 في إطار انطلاقة حركة المحرومين، مارس الصدر ورفاقه ضغوطاً متواصلة على الدولة لدفعها إلى تحمّل مسؤولياتها، ولم يتردّد بالدخول في مواجهات سياسية وكلامية حادّة مع السلطة. غير أنه، في كلّ مرة شعر فيها بأنّ خطر المواجهة الداخلية بات وشيكاً كما حصل أثناء التحضير لمهرجان بيروت الذي كان من المزمع تنظيمه في العاصمة في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1974، آثر التراجع وألغى المهرجان، وسلك طريق الوساطات والحوار سعياً إلى إعادة التهدئة وتفادي انفجار العنف. المجال الوحيد الذي رفض التراجع والتسوية فيه كان الدفاع عن الجنوب وسكانه.

وعلاوةً على ذلك، بعد تفاقم الأوضاع واستمرار المعارك الداخلية، ترّأس الصدر اعتصاماً كبيراً في مسجد الصفا في الكلية العاملية في بيروت في نهاية حزيران/يونيو وبداية تمّوز/يوليو 1975 من أجل وقف الحرب وإعادة الحوار وحصل في مبادرته تلك على دعم رجال دين وسياسيين ومفكّرين عديدين من كلّ الطوائف والميول السياسية، ناهيك عن أطراف كثيرة من المجتمع المدني مثل "تجمّع سكان كفر شوبا" وغيره. حينها نُشر كلام الصدر في مجلة "روز اليوسف" المصرية في 2 تمّوز/يوليو) 1975: "لو اتجهنا نحو الجنوب لما حدث ما حدث اليوم في بيروت.. عندما ننصرف عن القضايا المرتبطة بكرامة الوطن تتضاعف مشكلات الداخل". 

 دعا السيد موسى الصدر إلى تحسين أوضاع النظام اللبناني لا إسقاطه، على الرغم من عيوبه. أولويته بعد اندلاع الحرب كانت إيقافها: إطفاء الحريق ونزف الدم.

 وإذا كان لبنان قد شهد عواصف منذ تأسيسه، تمحورت حول إعادة توزيع النفوذ والثروات بين مكوّناته السياسية والطائفية والاجتماعية والطبقية المتعدّدة، فإنّه لا يمكن الوصول إلى صيغة سياسية مستقرّة ومستدامة فيه من دون حوار وتوافق وتفاعل بين جميع الأطراف. أما في "إسرائيل"، فيُفرض الواقع السياسي فيه من قِبل المكوّن الاستيطاني، الذي يحتكر الحقوق السياسية والمدنية والسلطة الحقيقية.

"ع س" أحد مؤيّدي الصدر الذي أُصيب في انفجار معسكر عين البنية في تمّوز/يوليو 1975 يتذكّر مجيء الصدر إلى البقاع من أجل وقف الاعتداءات على القرى المسيحية التي هوجمت من قبل بعض المسلحين والفصائل، ويحدّد رؤية قائده تجاه السلاح والصراع الداخلي: "إنّ الإمام كان معارضاً للصراع الداخلي وللطائفية وللحرب الأهلية. لم يقبل أن يُوجّه السلاح إلى الداخل.. كان الإمام يقول: السلاح، متى، أين ولماذا؟ إنّ هذه المقولة تختصر كلّ شيء".

 إنّ هذا التوجّه لحركة أمل في انطلاقتها، حدّده أيضاً أحد مساعدي الصدر الكبار، الشيخ محمد يعقوب، عند ما قال في خطاب يوم شهيد أمل في أيار/مايو 1976: "إننا نقاتل من أجل الإنسان، الوطن، وهو الإنسان الجماعة، نقاتل لحمايته من الاعتداء. الوطن وهو الجنوب الحقّ الذي يتعرّض لتجاوزات إسرائيل، وهي الباطل بعينه. من أجل الوطن ودفاعاً عنه وعن إنسانه، نقاتل. من أجل وحدة لبنان، من أجل منع قيام إسرائيل أخرى، أو إسرائيليات تدعم إسرائيل الأم، نقاتل. لكي نمنع تصنيف الإنسان وتحقيره وتشويهه تحت كابوس الفكر الإسرائيلي العنصري، الذي يتكوّن هنا وهناك في حالة التقسيم، نقاتل".

رفض الحرب الأهلية وتوجيه الطاقات إلى الجنوب وبناء مسار تفاهم وتشارك في الداخل، رغم الشكوك، والجراح، والصور النمطية المتجذّرة لدى كلّ الأطراف. تلك كانت أبجدية الإمام الصدر في لبنان التي حافظ عليها حتى إخفائه. من المفيد أن تُذكر أحرفها، وإن كان تغييبه قد منعه من كتابة بعضها، ولا سيّما عندما تحاول القوة العظمى إلغاءها من خلال التحريض على الحرب الأهلية.

تحرير الأرض من المحتلّ وتحرير الإنسان من قيوده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومنع أيّ صراع لبناني - لبناني، لبناني - فلسطيني من خلال الحوار والتفاهم، هذه بعض الكلمات التي كان يلفظها "السيد موسى" والتي ما زال يُسمعنا أصداءها في وجه ضجيج الوفود الأميركية وتهديداتها.