حزب الله من الصدمة إلى الصمود إلى مواجهة العدوان ثم الانتصار

لقد تحوّل حزب الله من كيان يعتمد على قادة تاريخيين إلى منظومة متماسكة بمؤسساتها العسكرية والأمنية والاجتماعية المتكاملة، والتي تمتلك القدرة على إنتاج قياداتها وجنودها وأسلحتها. 

  • بنى تحتية متماسكة ومتينة، ومقاومة متجذرة (أ{شيف).
    بنى تحتية متماسكة ومتينة، ومقاومة متجذرة (أ{شيف).

شكّل اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ومن قبله عملية البيجر واستشهاد قادة الصف الأول العسكريين، صدمة استراتيجية عميقة هزّت بنيان حزب الله. 

لم تكن هذه الضربات مجرد خسائر بشرية فادحة، بل كانت خسائر استراتيجية، حاكت الوجود والقدرة على الاستمرار والرد. إلا أن حزب الله، ومن خلال بنائه التنظيمي المتماسك والمنظم  وآلياته الداخلية المتجذرة وفهمه العميق لطبيعة دوره واستهدافه، نجح ليس فقط في تجاوز مرحلة الصدمة، بل وفي إعادة بناء هيكله القيادي (التنظيمي والعسكري) بفعالية، مكّنته من خوض معركة "أولي البأس" والتصدي للعدوان الإسرائيلي، ومنعه من التوغل البري، وهزيمته هزيمة واضحة بمعايير عسكرية.

بنى تحتية متماسكة ومتينة، ومقاومة متجذرة

لم يُحدث إغتيال السيد حسن نصر الله والقيادة العسكرية العليا للمقاومة فراغاً استراتيجياً في بنية الحزب، وهذا مرده إلى الوعي والإدراك المسبق لدى الحزب منذ تأسيسه لطبيعة دوره وحجم استهدافه، نتيجة مواجهته لمشروع احتلالي استعماري عنصري مدعوم إقليمياً ودولياً. وبالتالي فإن هذه التحديات، تتطلب بناء مؤسسات متينة وديناميكية، لا ترتبط بشخص واحد مهما بلغت كاريزميته وحضوره، بل بمبادئ ومؤسسات، وعمق مجتمعي متحضر ومنظم، مدرك لذاته وهدفه ومتمسك بالانضباط والقيم الضامنة لعمل المؤسسات، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنه يدل على عمق الوعي لدى هذا المجتمع للحظة المصيرية التي يعيشها وحجم الاستهداف الذي يتعرض له، انطلاقاً من صنعه لمعادلات ردع  _ لا أبالغ إن قلت _ كادت أن تطيح بسايكس بيكو. هذا الزرع وهذا البناء، يعود في جانب كبير منه إلى  السيد حسن نصر الله نفسه، حيث كان يردد دوماً أن حزب الله أمة لا ترتبط بشخص ولا تتوقف على قائد. وتم ذلك من خلال بناء منظومة دينية ثقافية جهادية مجتمعية متكاملة تقوم على:

1 _ ثقافة الولاء للقيادة الصالحة: إن الصفات الحاكمة للقائد في المقاومة، تستند إلى معيار  ديني عقائدي يرتكز على مفهوم الربط بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، في تكاملٍ لصورة الإنسان الرسالي الدينية والدنيوية، والتي تُنتجها حركة المقاومة لكل صنوف الظلم والنفاق والابتعاد عن الخط الذي يجسّده الاستعمار بكل تشعباته وصنوفه ومرتكزاته. هذه الصفات تلبس صاحبها مكانة دينية اجتماعية سياسية، تؤهله لأن يكون سنداً وموجّهاً وقائداً لجماعة تشاطره الأهداف والمبادئ والقيم نفسها ، ويستطيع من خلالها خلق واقع مجتمعي معرفي يقيني ولائي جاهز للبذل والتضحية في سبيل المبادئ التي آمن بها.

2 _ القيادة الجماعية والهرم المسطح: تجنّب حزب الله نموذج "الزعيم الأوحد". على الرغم من وجود أمين عام قوي، إلا أن الهيكل القيادي يعتمد على مجلس شورى وهيئات قيادية متخصصة (عسكرية، سياسية، اجتماعية). هذا التوزيع للسلطة والمعرفة منع انهيار المنظومة بأكملها مع فقدان الأمين العام والقيادة العسكرية. 

3 _ تخريج كوادر بديلة ومستعدة: يولي الحزب أهمية قصوى لاستمرارية العمل، هناك دائمًا "احتياطي استراتيجي" من الكوادر المدربة التي تُعَدّ لخلافة القيادات في أي ظرف. هذا النظام يضمن عدم توقف العملية التنظيمية ( السياسية والعسكرية)، ويحول دون حدوث الفراغ.

4 _ استشهاد القادة يتحوَّل إلى رافعة معنوية للمقاومين: يُعتبر استشهاد القادة في ثقافة الحزب، حافزاً لتعزيز الروح المعنوية والتصميم لدى عناصره وأنصاره كافة على الثأر، والعهد على متابعة  مسيرة الجهاد والمقاومة.

5 _ لا مركزية في الأداء الميداني: يتمتع القادة الميدانيون في الوحدات المختلفة باستقلالية تكتيكية كبيرة ضمن الإطار الاستراتيجي العام، ما يضمن استمرارية العمل المقاوم حتى في حال تعطّل مركز القيادة الأعلى.

الانتقال التلقائي للقيادة إلى الصف الثاني  

1 _ في أعقاب عمليات الاغتيال، لم تشهد المقاومة فراغاً قيادياً، بل شهدت عملية تسلم سريعة وفعّالة لقادة الصف الثاني الذين اكتسبوا خبرات عسكرية وقيادية ميدانية من خلال مشاركاتهم في القتال والتخطيط. وهؤلاء القادة لم يكونوا وجوهاً جديدة على الساحة الداخلية للحزب، بل فقط كانوا "مجهولين للعدو، وهذا الأمر شكل عنصر مفاجأة وقوة للمقاومة في تصديها للعدوان الاسرائيلي.

2 _ أثبت القادة الجدد كفاءة عالية في إدارة الحرب، من خلال معرفتهم العميقة للميدان، فهم أساساً قادة ميدانيون يعرفون تفاصيل الجغرافيا ونقاط قوة وضعف العدو. ويتمتعون بشرعية داخلية، نتيجة مسيرتهم الجهادية الطويلة، ما ضمن الولاء الكامل لهم من قبل القواعد التنظيمية.

امتحان النار: معركة أولي البأس 2024

كانت المواجهة الشاملة مع العدوان الإسرائيلي في العام 2024، والتي أُطلق عليها اسم معركة "أولي البأس"، هي المحك الحقيقي لقدرة الهيكل القيادي الجديد. وقد جاءت النتائج لتدحض كل التوقعات الإسرائيلية التي كانت تراهن على انهيار الحزب بعد الضربات الموجعة.

لقد أدارت القيادة الجديدة المعركة ببراعة فائقة، وظهر ذلك من خلال:

1 _ التدرج بالرد : كان الرد متدرجاً ومتصاعداً، بشكل فاجأ العدو الذي اعتبر أن قتله للسيد حسن نصر الله والقيادة العسكرية، وتوجيه ضربات جوية لمخازن الصواريخ، كفيلان بضعضعة الحزب وانهياره، فإذا به يتفاجأ ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية بقدرة الحزب على مواجهة الاجتياح البري، وإجبار الجيش الإسرائيلي على الانكفاء والتراجع، وبالتالي لجم العدو ووضعه أمام خيارات صعبة أجبرته بالنهاية على طلب وقف إطلاق النار.

2 _ تفعيل ترسانة أسلحة نوعية: كشفت المعركة عن تطور كمي ونوعي هائل في ترسانة الحزب الصاروخية والمسيّرة، والتي تم تطويرها وإدارتها بفعالية تحت قيادة الصف الثاني.

3 _ الحفاظ على التماسك الداخلي: لم تظهر أي بوادر انقسام أو تردد، بل سادت روح من الوحدة والثقة بين القيادة والقواعد، ما يعكس متانة البنية التنظيمية.

4 _ الابتكار التكتيكي: استخدم حزب الله تكتيكات جديدة ومعقدة، ما يشير إلى عقلية عسكرية مبتكرة لدى القيادة الجديدة، قادرة على التكيف والتطوير.

من الصدمة إلى الصمود والمواجهة ورد العدوان

لم يكن تجاوز حزب الله لصدمة الاغتيالات ونجاحه في معركة أولي البأس 2024، محض صدفة، بل كان نتيجة حتمية لاستراتيجية طويلة الأمد في بناء مؤسسة مقاومة راسخة. لقد أثبت الحزب أن فكرة المقاومة أصبحت مؤسسة، والشهادة أصبحت نظاماً، والقيادة أصبحت منهجاً وليست أفراداً.

لقد تحوّل حزب الله من كيان يعتمد على قادة تاريخيين إلى منظومة متماسكة بمؤسساتها العسكرية والأمنية والاجتماعية المتكاملة، والتي تمتلك القدرة على إنتاج قياداتها وجنودها وأسلحتها. 

معركة أولي البأس لم تكن مجرد رد على عدوان، بل كانت إعلاناً عن ولادة مرحلة جديدة، تقودها وجوه جديدة، ولكن بالروح نفسها والإرادة نفسها والعزيمة نفسها، التي هزمت المشروع الصهيوني مرات عديدة. لقد خرج الحزب من التجربة ليس أقوى تنظيمياً فقط، بل وأكثر رهبةً وقدرةً على فرض معادلات الردع من تموز 2006. ولكن المتغير السوري أفسد ما أنجزته المقاومة في معركة أولي البأس ووضع المقاومة ومعها لبنان بين فكي كماشة، وهذا الأمر بدَّل حسابات المقاومة في الرد على الاعتداءات الصهيونية، والاكتفاء بترميم قدراتها في دائرة من الغموض البناء والصبر الاستراتيجي، بانتظار عدوان إسرائيلي جديد أو تبدل في المشهد الإقليمي.