نتنياهو بين النص والنار: من "مكان تحت الشمس" إلى سياسة الإبادة

كتاب "مكان تحت الشمس" لبنيامين نتنياهو ليس مذكرات بقدر ما هو بيان أيديولوجي مكتمل، يُفصح عن جوهر المشروع الصهيوني ويضع الأسس النظرية لما نعيشه اليوم من حروب واستباحات في المنطقة.

  • خوفاً من الاعتقال.. رحلة نتنياهو إلى أميركا تسلك مساراً طويلاً وتتجنب دولاً أوروبية
    نتنياهو بين النص والنار: من "مكان تحت الشمس" إلى سياسة الإبادة

في التاريخ السياسي الحديث، قلّ أن نقرأ كتاباً يكشف صاحبه أكثر مما يريد أن يخفي. "مكان تحت الشمس" لبنيامين نتنياهو ليس مذكرات بقدر ما هو بيان أيديولوجي مكتمل، يُفصح عن جوهر المشروع الصهيوني في نسخته الليكودية المتطرفة، ويضع الأسس النظرية لما نعيشه اليوم من حروب واستباحات في المنطقة، ولا سيما على الجبهة اللبنانية.

الكتاب، الصادر في منتصف التسعينات، لم يكن مجرد سردٍ لتجربة سياسية، بل خارطة طريق لحروبٍ قادمة، ومرجعاً فكرياً لسياساتٍ تُمارس اليوم بالنار والحديد على حدود لبنان وفي عمق أراضيه.

منذ صفحاته الأولى، يضع نتنياهو معادلة واضحة: الأرض أولاً، القوة دائماً، والسلام مشروط بالهيمنة. فكل حديثٍ عن تسوية أو مساواة بين الضحية والجلاد عنده ليس إلا خيانة للرؤية التاريخية "لشعب الله المختار". ومن هنا، يتأسس المنطق الذي يدير به اليوم إسرائيل في حروبه المتكررة: لا تفاوض إلا من موقع المنتصر، ولا أمان إلا في ظل السلاح.

أولاً: من العقيدة إلى الدولة الأمنية

حين كتب نتنياهو أن "القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب"، كان يرسم ملامح دولةٍ لا تعرف حدودها إلا بمقدار ما تمتد عليه جيوشها. تلك الفكرة التي تبدو أيديولوجية في الكتاب، تحوّلت مع الزمن إلى بنية عسكرية – سياسية تحكم كل قرارٍ في "إسرائيل".

اليوم، مع تصاعد التوتر على الجبهة الشمالية، يعيد نتنياهو إنتاج هذا المبدأ بحرفيته: الأمن قبل كل شيء، حتى ولو أدى إلى تدمير قرىٍ لبنانية بأكملها أو تهجير سكان الجنوب.

يرفض أي مبادرة لوقف النار قبل تحقيق "تغيير في الواقع الأمني شمالاً"، ويعلن أن هدفه ليس فقط منع إطلاق الصواريخ، بل «إبعاد الخطر الإيراني عن الحدود". إنها نسخة محدثة من نظريته القديمة: إخضاع الجغرافيا يبدأ بإخضاع الوعي.

وفي المقابل، يقدّم نفسه للغرب باعتباره حارس البوابة المتقدمة للحضارة الغربية في مواجهة "الإرهاب الشيعي"، وهو التعبير الذي ورثه من أدبيات الحرب على المقاومة، مكرّساً خطاب الضحية الأبدية الذي يبرر كل عدوان.

ثانياً: الأرض الموعودة... سياسة الردع والاحتلال غير المعلن

في "مكان تحت الشمس" يكتب نتنياهو أن "يهودا والسامرة ليستا أرضاً محتلة بل جزء من الوطن التاريخي". هذه الجملة المفصلية صارت لاحقاً مرجعيةً سياسية لسياسات الضمّ والتوسع، وامتدت اليوم في نظر نتنياهو إلى ما وراء فلسطين التاريخية نفسها، لتشمل كل مجالٍ يمكن أن يشكّل تهديداً لتفوّق إسرائيل الأمني.

هكذا يبرّر التوغلات الجوية والبرية داخل الأراضي اللبنانية، ويطرح نظريات "المنطقة العازلة" و"العمق الوقائي" شمال الحدود، وكأن السيادة اللبنانية تفصيل جغرافي يمكن التلاعب به تحت شعار الأمن القومي الإسرائيلي.

إنها فلسفة "الحدود المتحركة" التي أسسها في كتابه: حدود الدولة لا تُرسم بالقانون بل بقوة النيران.

ثالثاً: صناعة العدو الأبدي

من أبرز أدوات نتنياهو الفكرية في كتابه تحويل الصراع من نزاعٍ سياسي إلى معركةٍ حضارية. فالعرب عنده ليسوا خصوماً على حدودٍ أو موارد، بل "أعداء جوهريون" للغرب ولليهودية على السواء.

بهذا المنطق، تتحوّل كل مواجهة مع لبنان إلى "حرب على الإرهاب"، لا على أرضٍ متنازعٍ عليها.

القرى الجنوبية تُقصف بحجة وجود منصات صواريخ، والمواطنون يصبحون «دروعاً بشرية»، والمقاومة تتحوّل إلى "ذراعٍ إيرانية". هكذا يشرعن نتنياهو العدوان، ويحوّل الحرب إلى واجبٍ أخلاقي مقدّس في نظر جمهوره.

إنه لا يكتفي بإلغاء الآخر من الخريطة، بل من اللغة أيضاً. فلا وجود في خطابه لكلمة "لبنان"، بل لـ"الجبهة الشمالية". لا يعترف بسيادة الدولة اللبنانية، بل يتعامل معها كفضاءٍ أمني.

بهذه اللغة، ينجح في تحويل الصراع من مسألة حدود إلى معركة وجود، ومن نزاعٍ سياسي إلى صدامٍ حضاري لا حلّ له إلا بالقوة.

رابعاً: الدولة داخل الحرب – الحرب كوظيفة للسلطة

لا يمكن فهم سياسات نتنياهو تجاه لبنان بمعزل عن أزمته الداخلية. فالرجل الذي يواجه تظاهراتٍ واسعة ومحاكم فساد، وجد في التصعيد العسكري متنفساً سياسياً ودرعاً واقية من السقوط.

الحرب بالنسبة إليه ليست وسيلة دفاع، بل وسيلة بقاء.

في "مكان تحت الشمس" يطرح رؤيةً لدولةٍ تعيش في حالة تأهبٍ دائم، تعتبر السلم استثناءً مؤقتاً. هذه الدولة الأمنية تتغذّى على الخوف وتحتاج إلى عدوٍ دائم لتبرير وجودها.

اليوم، يستخدم نتنياهو لبنان كمنصةٍ لتجديد هذا المنطق. فكلما اهتز موقعه السياسي، أشعل جبهة جديدة أو صعّد في الجنوب، مستدعياً أسطورة "الضحية المهددة" التي تبرر كل عدوان.

خامساً: العزلة الدولية... وعودة "القلعة"

حين كتب نتنياهو أن "إسرائيل لن تحصل على سلامٍ حقيقي إلا عندما يدرك الآخرون أنها لا يمكن هزيمتها"، كان يعلن موت الدبلوماسية وولادة "القلعة".

في الحرب المفتوحة على الحدود اللبنانية، تتجسد هذه الفكرة بوضوح.

فإسرائيل التي تواجه انتقادات دولية متصاعدة بسبب قصفها العشوائي، تردّ بتوسيع عملياتها البرية والجوية، متذرعة بأن "القوة وحدها تضمن الردع".

يعرف نتنياهو أن القلعة التي بناها على فكرة الخوف لا يمكن أن تصمد إلا بتصعيد دائم. لذلك يحرص على إبقاء التوتر قائماً مع لبنان، ويرفض كل دعوةٍ إلى تسوية طويلة المدى أو اتفاقٍ جديد على غرار تفاهم نيسان.

القلعة لا تعيش في السلم، بل في الحصار، وكل هدنةٍ تهدد بنيانها.

سادساً: بين النصّ والتاريخ

لا يمكن قراءة سلوك نتنياهو اليوم خارج سياق كتابه القديم. فحينها كان يكتب دفاعاً عن "حقٍّ تاريخي"، واليوم يمارس هذا الحق بتوسيع عدوانه إلى أراضٍ خارج حدود فلسطين.

كان يدّعي أن الديمقراطية الإسرائيلية دليل تفوقٍ حضاري، واليوم يحكم بتحالفٍ مع متطرفين دينيين يطالبون بضرب لبنان "حتى آخر حجر".

النص تحوّل إلى ممارسةٍ دموية، والنظرية التي تحدثت عن "مكانٍ تحت الشمس" أصبحت سياسة لإطفاء شمس الآخرين في الجنوب اللبناني.

سابعاً: مأزق المشروع ومكر التاريخ

لكن المفارقة أن كل ما سعى نتنياهو لتحقيقه من أمنٍ وقوة، ينقلب عليه. فـ"إسرائيل" التي أرادها حصناً منيعاً، باتت أكثر هشاشةً من أي وقتٍ مضى.

تواجه انقساماً داخلياً غير مسبوق، وتراجعاً في مكانتها الدولية، وتنامياً غير مسبوق في قدرة محور المقاومة على فرض توازن ردعٍ جديد من الجنوب اللبناني حتى البحر الأحمر.

في المدى البعيد، يتحوّل تطبيق "مكان تحت الشمس" إلى نقيضه: بدلاً من توسيع المكان، ينكمش الوجود. وبدلاً من القوة التي تفرض الهيبة، قوةٌ تولّد الخوف والعزلة.

هنا يظهر مكر التاريخ الذي يلاحق كل مشروعٍ توسعيّ، إذ يتحول الأمن المطلق إلى سرابٍ دموي، والاحتلال الدائم إلى عبءٍ لا يُحتمل.

ثامناً: في الخاتمة – استحالة التفاوض بين لبنان و"إسرائيل"

نتنياهو لم يكتب كتاباً في السياسة، بل وثيقةً في الخيال الميتافيزيقي للمشروع الصهيوني، مشروعٌ يعيش على أسطورة الخلاص بالقوة، ويفشل في مواجهة الحقيقة الواقعية: أن الاحتلال لا يصنع أمناً، وأن من يختنق الآخر ليحيا، يموت ببطءٍ داخل أسواره.

في "مكان تحت الشمس" كان نتنياهو يبحث عن مكانٍ لدولته في التاريخ. واليوم، يكتشف أن التاريخ نفسه يرفض مكاناً لمن يطفئ شموس الآخرين.

لم يعد الصراع على الأرض وحدها، بل على المعنى. فبين نصٍّ كتب لتبرير الوجود، وواقعٍ ينهار على وقع القذائف في الجنوب، تتكشف مأساة "إسرائيل" الحديثة: دولةٌ بنت نفسها على الأسطورة، وها هي الأسطورة تأكل أبناءها.

ومن هنا، تبدو كل دعوةٍ إلى "تفاوضٍ مباشر" بين لبنان وإسرائيل وهماً سياسياً. فالعقيدة التي تحكم "تل أبيب" لا ترى في لبنان دولةً ذات سيادة، بل جبهة ينبغي تحييدها بالقوة.

النظام الذي يؤمن بأن وجوده مرهون بتفوّقه على الآخرين لا يمكن أن يدخل في تسويةٍ متكافئة، ولا أن يعترف بسيادةٍ موازية لسيادته.

لذلك، سيبقى الجنوب اللبناني – كما أراده نتنياهو في نظرته الأمنية – ساحة مواجهة مفتوحة، لا ساحة تفاوض.

وما دامت "إسرائيل" تعيش بعقل "القلعة" الذي صاغه نتنياهو في كتابه، سيبقى التفاوض معها استحالةً سياسية وأخلاقية، وستظل الحرب أو استعداد المقاومة لها، اللغة الوحيدة التي تفهمها "تل أبيب".