هل يعود لبنان إلى الحرب؟ قراءة في تصاعد الضربات الإسرائيلية واستهداف الطبطبائي

لماذا تتزايد التهديدات "الإسرائيلية"؟ وهل هدف "نزع سلاح حزب الله" واقعي؟ وما هي خيارات لبنان لتفادي الحرب؟ وهل يمكن للمحور أن يخوض مواجهة موحّدة تعيد توازن الردع؟

  •  قراءة في تصاعد الضربات الإسرائيلية واستهداف الطبطبائي
    قراءة في تصاعد الضربات الإسرائيلية واستهداف الطبطبائي

يشهد لبنان مرحلة شديدة الحساسية بعد الغارة "الإسرائيلية" التي استهدفت الضاحية الجنوبية وأسفرت عن اغتيال القيادي البارز في حزب الله، هيثم الطبطبائي، في واحدة من أكثر الضربات خطورة منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، هذا الهجوم لا يمكن النظر إليه كحدث منفصل، بل هو مؤشر على عودة التوتر إلى مستويات تنذر بانفجار كبير قد يعيد الجبهة اللبنانية إلى "الأيام القتالية" التي لوّحت بها "إسرائيل" مراراً.

في ظل هذا التطور، تعود الأسئلة الجوهرية إلى الواجهة: لماذا تتزايد التهديدات "الإسرائيلية"؟ وهل هدف "نزع سلاح حزب الله" واقعي؟ وما هي خيارات لبنان لتفادي الحرب؟ وهل يمكن للمحور أن يخوض مواجهة موحّدة تعيد توازن الردع؟

لماذا عاد الكيان الصهيوني للتصعيد على جبهة لبنان؟ 

تتعامل "إسرائيل" مع الجبهة اللبنانية بوصفها مصدر تهديد استراتيجي مستمر، وترى أن وقف إطلاق النار الحالي هش ولا يوفّر ضمانات كافية لأمنها، فهي التي باتت تخشى من أي فصيل مقاوم مهما كان صغيراً أن يكون على حدودها، خشية تكرار ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023، وهذا ما يعلن عنه قادة الكيان في كل مناسبة "لا عودة إلى ما قبل الـ 7 من أكتوبر، أي لم يعد من المسموح وجود قوى عسكرية تشكل خطراً على حدودنا.

 بالرغم من تنفيذ الجانب اللبناني لجميع بنود الاتفاق وعلى رأسها انسحاب حزب الله وتسليم مواقعه وسلاحه جنوب نهر الليطاني، وذلك منذ اليوم الأول لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، استمرت "إسرائيل" في القيام بضربات انتقائية تستهدف مواقع مدنية وقيادات تابعة لحزب الله على كامل مساحة الجغرافيا اللبنانية بذريعة منع الحزب من إعادة ترميم قدراته العسكرية.

لكن أخطر هذه الضربات كانت يوم أمس، حيث شن جيش العدو الإسرائيلي غارة في قلب الضاحية الجنوبية. تكشف هذه الغارة رغبة "إسرائيلية" في تغيير قواعد الاشتباك، وإيصال رسالة مزدوجة: القدرة على اختراق العمق، والاستعداد للعودة إلى عمليات واسعة في حال لم تُعالج مخاوفها الأمنية كما تدّعي، وعلى رأسها سحب سلاح حزب الله وتفكيك بنيته في كل لبنان.

نزع سلاح الحزب بين الطموح والواقع

تطرح "إسرائيل" منذ سنوات هدف نزع سلاح حزب الله، وتعيد التذكير به مع كل دورة تصعيد. لكن هذا الهدف، على الرغم من تكراره، تبدو قابليته للتحقق محدودة. فالحزب يمتلك بنية عسكرية معقدة، وخبرة قتالية كبيرة، وعمقاً اجتماعياً وسياسياً داخل لبنان، إضافة إلى ارتباطه بمحور إقليمي واسع.

ما قد تكون "إسرائيل" تسعى إليه واقعياً هو تقليص القدرات إلى الحد الأدنى، لا تدميرها بشكل كامل أقله في هذه المرحلة، وذلك عن طريق القيام بضربات نوعية، وإرباك منظومات القيادة، وتقليص التمركز العسكري قرب الحدود، وإعادة رسم حدود الردع، إضافة إلى بقاء قواته داخل مساحات محتلة جنوب نهر الليطاني، أي تقليم مخالب الحزب والحد من خطره تجاه قيامه بأي عمل عسكري ضد جيش الاحتلال في فلسطين المحتلة. لكن حتى هذا الهدف ينطوي على مخاطِر كبرى، إذ قد يدفع الحزب والمحور إلى رفع سقف الرد، ما يفتح الباب أمام مواجهة أكبر.

سيناريوهات التصعيد ومخاطر الحرب على لبنان

أي توسع للعمليات العسكرية سيضع لبنان أمام سيناريوهات شديدة الخطورة أحلاها مر.

1.   حرب واسعة النطاق

حملة جوية وبرية "إسرائيلية" شبيهة بالحرب الأخيرة "معركة أولي البأس"، مع قدرات تدميرية أكبر – فالاحتلال الإسرائيلي عوّدنا أنه عندما يعود لشن حرب مفتوحة، تبدأ من حيث توقفت أخر مواجهة، أي بنفس القدرة التدميرية النهائية التي توقف عندها في حربه الأخيرة - ما قد يؤدي إلى انهيار ما تبقى من البنية التحتية اللبنانية، ونزوح واسع، وخسائر بشرية كبيرة.

2.   حرب استنزاف طويلة:

هجمات متقطعة تكون مزيجاً بين الاغتيالات والضربات الجوية المركّزة، مقابل ردود مدروسة من الحزب. وهو السيناريو الأكثر إنهاكاً للبنان على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والذي إن حدث سيدفع بالداخل اللبناني إلى الانفجار، أو تصادم الجيش اللبناني مع الحزب من أجل اجباره على تسليم السلاح.

3.   توسع إقليمي:

إذا تجاوزت "إسرائيل" في عدوانها على الجبهات كافة في آن واحد، مستندة بذلك إلى شعورها المنتفخ بالسيطرة والتفوق العسكري الذي تمارسه من بعد اتفاقات التهدئة في المنطقة، عندها قد ينخرط أطراف من المحور بشكل مباشر، ما يرفع مستوى المخاطر من اشتباك محدود إلى صراع مفتوح.

هل يخوض حزب الله والمحور معركة موحّدة؟

أحد الأسئلة الأكثر حساسية هو إذا ما كان حزب الله والمحور قادرين – أو راغبين – في خوض مواجهة موحّدة ضد "إسرائيل"، ولا سيما بعد التجربة السابقة في معركة الطوفان، حين قاتل الأطراف في جبهات منفصلة، من دون غرفة عمليات موحدة ولا تنسيق يرقى إلى مستوى الحرب.

الدرس الكبير من تلك المرحلة، أن غياب التنسيق الاستراتيجي وعدم انخراط كل الأطراف بالزخم والقوة نفسهما منذ الأيام الأولى، سهّل على "إسرائيل" تفتيت الجبهات والاستفراد بكل ساحة وإضعافها، ما جعلها تحقق مكاسب تكتيكية.

اليوم، قد يدفع استهداف شخصية بحجم الطبطبائي المحور إلى إعادة تقييم قواعد الاشتباك، لكن قرارهم بخوض معركة موحدة سيخضع لحسابات دقيقة تتعلق بمستويات المخاطرة، والمناخ الدولي، وأولويات كل طرف ومدى جاهزية كل طرف، حيث يجب ألا ننسى بأن جبهة غزة شبه خرجت من الصراع ولم يعد في جعبة مقاومتها قوة تمكنها من خوض معركة مفتوحة كالسابق.

استهداف قيادي في حزب الله من الصف الأول في قلب الضاحية الجنوبية بعد عام على وقف إطلاق النار، يشير إلى نية "إسرائيلية" توسيع عملياتها العسكرية واستهدافها لحزب الله، حتى لو وصل الأمر إلى الذهاب لأيام قتالية محدودة كما يروّج قادتها منذ أسابيع. 

قد يسعى حزب الله إلى رد مدروس يعيد تثبيت قواعد الاشتباك، لكن من دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. فيما قد تحاول "إسرائيل" اختبار حدود هذا الرد، ما يجعل المرحلة المقبلة من الأكثر تقلباً منذ سنوات.

خيارات لبنان لتفادي الحرب

رغم هشاشة الوضع، يمتلك لبنان بعض الأوراق التي يحاول أن يلعب بها بين الحين والآخر ومنها:

1.   تفعيل المسار الدبلوماسي: 

كان أبرزه ما طرحه رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطاب عيد الاستقلال، ودعوته إلى التفاوض لإنهاء الاعتداءات، في مقابل تشديده على أن الدولة اللبنانية ستقوم باحتكار القوة والسيطرة على جميع الأراضي اللبنانية، شرط أن يبدأ التفاوض بعد انسحاب العدو الصهيوني من النقاط التي يحتلها في جنوب لبنان.

2.   تعزيز دعم الجيش اللبناني

 يدرك النظام الرسمي اللبناني برئاساته الثلاث أن الجيش اللبناني يمتلك من العقيدة الوطنية ما يكفي لحماية أرضه وشعبه، لكن العقيدة لا تكفي من دون وجود سلاح رادع يحمي البلاد داخلياً وخارجياً، بالأخص إن كانت مهمة الجيش مواجهة عدو مثل "إسرائيل"، لذلك يردد ساسة لبنان على مختلف توجهاتهم طلب تسليح ودعم الجيش اللبناني ليعزز حضوره في المناطق الحساسة، ما يعطي الدولة موقعاً تفاوضياً أقوى داخلياً وخارجياً، ويُبقي "إسرائيل" تحت ضغط احترام المعادلة القائمة.

3.   محاولة إشراك قوى إقليمية ودولية

تسعى الدولة اللبنانية لإشراك دول مؤثرة على الساحتين الإقليمية والدولية، لتلعب دوراً مانعاً للحرب على غرار الاتفاق الذي أُقيم في غزة بضمانة عربية وإسلامية ورعاية أميركية، خاصة مع إدراك الجميع أن أي انفجار كبير سيهدد استقرار المنطقة كلها.

جميع هذه الخيارات لن تكون ذات قيمة إن لم يحصن الداخل اللبناني جبهته، بتعزيز خطابه الوطني وخلق تفاهم وطني جامع، عابر للانقسامات الحزبية والطائفية المذهبية، فصيغة الانقسام الطائفي لم تجلب للبنان خيراً طيلة ستة عقود منصرمة.

الغارة "الإسرائيلية" على الضاحية الجنوبية ليست مجرد حدث أمني، إنها نقطة انعطاف تؤكد أن لبنان يقف على حافة معادلة جديدة. "إسرائيل" تلوّح بالحرب وتضرب بعرض الحائط كل اتفاق وقف إطلاق النار، فالقيادة السياسية في "تل أبيب" تعيش حالة من الانتفاخ والعنجهية تجعلها تتعالى حتى على شركائها الغربيين، وتكسبها ثقة للاستمرار في عربدتها في المنطقة من دون أي رادع. 

أما حزب الله، فيحاول جاهداً أن يوازن بين عدم الانجرار إلى حرب قد تدمر لبنان والبيئة، وبين الحفاظ على وجوده وسلاحه الذي يشكل ضماناً لعدم احتلال جنوب لبنان في ظل غياب دور حقيقي وفاعل للدولة اللبنانية.

المشهد مفتوح على كل الاحتمالات، من تثبيت هدوء هشّ إلى تصعيد واسع ومفتوح. وفي كل الأحوال، فإن مستقبل الجبهة اللبنانية بات مرتبطاً بقدرة الأطراف الإقليميين والدوليين على الضغط على "إسرائيل" لإيقاف عدوانها على لبنان وتنفيذ شروط اتفاق وقف إطلاق النار، لكن يبقى السؤال المفتوح: هل يوجد من يرغب بلعب هذا الدور؟ أم أن هناك توافقاً دولياً على ضرورة ضرب حزب ال بنفس له؟