أسطول الصمود: صيحة الضمير التي عُذبت في الزنازين، وشرف المحاولة الذي لا يُرحَّل

في اللحظة التي سيطرت فيها القوات الإسرائيلية على السفن، جرى تحويل الناشطين من رسل سلام إلى "معتقلين"، واقتيدوا إلى سجون الاحتلال، ليتحول الصمود في عرض الموج إلى ثبات في وجه السجان.

  • المأساة في المياه الدولية: ثمن الإرادة الحرة (أرشيف).
    المأساة في المياه الدولية: ثمن الإرادة الحرة (أرشيف).

في عرض البحر الأبيض المتوسط، بعيداً عن صخب البورصات ومداولات المؤسسات الدولية المعلقة، رُسمت معالم واحدة من أعظم قصص التحدي الإنساني في عصرنا. لم يكن "أسطول الصمود العالمي" مجرد مجموعة من السفن تحمل مساعدات رمزية لا تسد جوعاً، بل كان تجسيداً عملياً للضمير العالمي الحي.

كان إعلاناً شعبياً مدوياً بأن حصار غزة، المستمر منذ سنوات طويلة، هو جريمة ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عنها. لقد انطلق هذا الأسطول من موانئ تونس وإسبانيا وإيطاليا، حاملاً على متنه مئات الناشطين من حوالى أربعة وأربعين جنسية، بينهم الأكاديمي والطبيب، والنائب والناشط البيئي والمواطن العادي، كلهم توحدوا تحت هدف واحد وهو فتح ممر بحري للإغاثة الإنسانية حيث فشلت الحكومات.

لقد اختار هؤلاء الناشطون، بوعي كامل، أن يتحولوا من مجرد متضامنين إلى متحدين يواجهون قوة مسلحة لا تعترف بقدسية المياه الدولية أو بقوانين الإغاثة. هذا الإبحار بحد ذاته هو صيحة ضمير هزّت ركود العواصم التي اختبأت خلف بيانات الشجب الخجولة، مؤكداً أن الخطر الأكبر يكمن في الرضوخ للصمت والتواطؤ مع التجويع والإبادة.

المأساة في المياه الدولية: ثمن الإرادة الحرة

سرعان ما تحول المشهد الإنساني إلى فصل من القرصنة الموصوفة في وضح النهار. اعتراض القوات البحرية الإسرائيلية للسفن في المياه الدولية لم يكن مجرد عملية "أمنية"، بل كان فشلاً أخلاقياً مدوياً، ومحاولة سافرة لقمع صوت مدني عالمي يطالب بالعدل.

في اللحظة التي سيطرت فيها القوات الإسرائيلية على السفن، تم تحويل الناشطين من رسل سلام إلى "معتقلين"، واقتيدوا إلى سجون الاحتلال، ليتحول الصمود في عرض الموج إلى ثبات في وجه السجان.

كانت تلك اللحظة بداية الفصل الأكثر قسوة في هذه الملحمة، فصل التعذيب والإذلال داخل سجون النقب. لقد كشف هذا الاعتراض عن حقيقة واحدة لا لبس فيها، وهي أن هدف الاحتلال ليس منع وصول المساعدات فحسب، بل تدمير رمزية التضامن الدولي نفسه.

تعذيب نفسي وجسدي: شهادات تفضح وحشية السجون

بعد ترحيل الناشطين تباعاً إلى بلدانهم، بدأت تتكشف شهاداتهم المرعبة، مؤكدة أن معاملتهم تجاوزت الاعتقال التعسفي لتصل إلى حد الإذلال والانتهاك، بهدف كسر إرادة التضامن، كانت هذه المعاملة القاسية بمنزلة عقاب جماعي فردي ممنهج. حيث روى الناشطون، الذين احتُجزوا في سجون الاحتلال تفاصيل صادمة عن "التعذيب النفسي والجسدي". لم يقتصر الأمر على سوء ظروف الاحتجاز المعتادة، بل شمل تعرض الناشطين للضرب والإهانة والسخرية، ووُصفت معاملتهم بـ"الحيوانية"، مع ترويعهم ليلاً بالصراخ وإظهار الأسلحة.

هذا فضلاً عن أنهم احتجزوا في ظروف غير إنسانية، مع نقص حاد في الطعام والماء، وحرمانهم النظافة والوصول إلى الاستشارات القانونية، وهي كلها انتهاكات صارخة لـ "قواعد مانديلا" المتعلقة بمعاملة السجناء. وطُلب من العديد منهم التوقيع على تعهدات بالامتناع عن الدخول "غير القانوني" إلى "إسرائيل"، في محاولة لشرعنة اعتقالهم التعسفي في المياه الدولية.

صرخات الناشطين العرب والدوليين

تأتي شهادات الناشطين العرب لتؤكد أن القمع لا يميز بين جنسيات. لقد تعرض الناشطان التونسيان وائل نوار وياسين القيادي، وغيرهما، للمعاملة القاسية ذاتها، وحُرموا حقوقهم القانونية الأساسية، بما في ذلك التواصل الفوري مع المحامين. هذا الإذلال المُتعمَّد للناشطين العرب والأجانب يؤكد أن رسالة الحصار لا تفرق بين جنسية وأخرى، وأن كل صوت يدافع عن غزة هو هدف للقمع.

وفي السياق الدولي، كشفت رسائل نقلها مسؤولون سويديون عن الناشطة غريتا تونبرغ أنها تعرضت لمعاملة قاسية، من ضمنها احتجازها في "زنزانة مليئة ببق الفراش" والمعاناة من الجفاف، والأشد إيلاماً كان إجبارها على التقاط صور وهي تحمل علم "إسرائيل"، وهو إجراء يكشف عن محاولة سافرة لاستغلال الناشطين وتشويه قضيتهم بالإكراه السياسي والإذلال. هذه الروايات تؤكد أن التعذيب لم يكن مجرد ممارسة فردية، بل أداة ممنهجة لكسر إرادة المتضامنين.

المقاومة بالرواية: الإرث الحقوقي للأسطول

إن الثمن الباهظ الذي دفعه الناشطون لا يمكن أن يذهب سدى. فبعد ترحيلهم، أصبحوا هم القصة الأكثر تأثيراً، إذ قدموا رواية لا يمكن دحضها عن حقيقة الحصار ووحشية القائمين عليه.

هذه الرواية المدعومة بشهادات متعددة الجنسيات حول القرصنة في المياه الدولية والتعذيب في السجون، توفر للمحامين والمنظمات الحقوقية ذخيرة قانونية هائلة. لقد أعاد الأسطول وضع مفهوم "جريمة الحرب" و"انتهاكات القانون الإنساني الدولي" على طاولة النقاش، ليس فقط كقضايا تخص الفلسطينيين، بل كقضايا تهدد الأمن البحري وحقوق الإنسان على مستوى العالم. هذا هو الانتصار الصامت الذي حققه الأسطول وهو توفير الأدلة الحية.

يكفيهم شرف المحاولة: الانتصار الذي لا يُصادَر

قد يرى الجلاد أن اعتقال الناشطين وترحيلهم نهاية للحكاية، ولكنه يجهل أن الرسالة قد وصلت والبذرة قد زُرعت. إن النصر الحقيقي لـأسطول الصمود لا يقاس بوصول السفن إلى الشاطئ، بل بـالصدى الأخلاقي الذي أحدثه في كل ركن من أركان العالم.

يكفيهم شرف المحاولة لأنهم وحدهم، كمجموعة من الأفراد، تحدوا جبّاراً مسلحاً بالحصار والدعم الدولي. لقد نجحوا في تعرية القانون الدولي و كشفوا أن القوانين الإنسانية وحرية الملاحة لا قيمة لهما أمام القوة الغاشمة، ما وضع الحكومات المتخاذلة والمؤسسات الأممية في موضع المساءلة.

وأيضا نجحوا في خلق شهود أحياء، فكل ناشط جرى ترحيله لم يعد مواطناً عادياً، لقد عاد سفيراً شاهداً على الحقيقة. 

لقد عادوا بأجساد تعاني آثار التعذيب، لكنهم يحملون قصصاً تدين الحصار وتفضح وحشية السجان، وهذه القصص لا يمكن احتواؤها أو ترحيلها، مؤكدين بذلك عالمية القضية، حيث أثبتوا أن غزة ليست قضية فلسطينية أو عربية منعزلة، بل هي مقياس للضمير الإنساني العالمي. والتضامن من كل القارات، أكد أن الحصار المفروض على غزة لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل يخص كرامة الإنسانية جمعاء.

لقد عاد الناشطون المرحّلون بأجساد منهكة، لكنهم حملوا معهم كرامة الموقف وشرف النية الصادقة. غادروا السجون، لكنهم تركوا خلفهم جدراناً تهتز من عار الانتهاكات.

وفي كل موجة تضامن جديدة تتصاعد حول العالم، يتردد صدى إنجازهم الأكبر: أن شرف المحاولة الإنسانية لا يمكن أن يسلبه سجن، ولا يمكن أن يوقفه ترحيل. إنهم ليسوا مجرد معتقلين سابقين، إنهم رواد موجة التضامن المقبلة التي لن يوقفها حصار ولن يكسرها سجّان.