أوجلان... "المنتقم" الذي جنح للسلم: نعم للشراكة في المبنى التركي لا نواطير

منذ البدء حمل أوجلان اسماً ذا دلالة قوية، فـ "أوجلان" تعني في اللغة التركية والكردية "المنتقم" أو "طالب الانتقام"، وهو ما يعكس النهج الذي تبنّاه في قيادته لحزب العمال الكردستاني منذ تأسيسه عام 1978.

  • أوجلان طالب بأنّ يكون الكرد شركاء في المبنى التركي لا أن يكونوا نواطير (أرشيف).
    أوجلان طالب بأنّ يكون الكرد شركاء في المبنى التركي لا أن يكونوا نواطير (أرشيف).

كلما اتسعت أهمية التفاوض بين حزب الـ (BKK) والحكومة التركية في مجال التسوية المقترحة من قبل زعيم الحزب عبد الله أوجلان (في إعلان تاريخي صدر في إسطنبول، 27 شباط/ فبراير) كلما ضاقت سبل المواجهة العسكرية وأغلق باب التدخّلات الخارجية في الشؤون الداخلية للأطراف بما تمثّله من وسيلة مرنة تعزّز استقلاليتهم في حلّ الخلافات والعكس صحيح.

عندما صافح الزعيم القومي التركي المتشدّد دولت بهجلي الرئيسين المشاركين لـحزب الشعوب الديمقراطي (أصبح اسمه حزب المساواة وديمقراطية الشعوب ـ ديم) في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2024، لم يكن ذلك مجرّد لحظة عابرة، بل كان المقدّمة التي أطلقت شرارة مسار جديد ما زال موضوعاً للنقاش. وقال "عمر أونهون"، آخر سفير تركي في دمشق قبل اندلاع ما يسمّى بـ "الثورة": شكّلت المصافحة، التي جرت في اليوم الأول من السنة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي، بمبادرة من بهجلي، لحظة رمزية في معركة تركيا المستمرة منذ قرون مع الجماعات الكردية، والتي تركّز أساساً على "حزب العمال الكردستاني"، المصنّف على نطاق واسع كمنظّمة إرهابية. ويبدو أنّ مبادرة بهجلي تشير إلى محاولة أوسع لمعالجة "القضية الكردية" المزمنة والشائكة. وباعتبارها "عملية مصالحة" محتملة، فإنّ هذه الجهود تمسّ ديناميكيات سياسية واجتماعية بالغة الحساسية.

لم تأتِ دعوة أوجلان حزبه إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه من فراغ، وبعد عقد من الجمود الذي لم تخرقه إلا مواجهات متفرّقة، مدَّ حزب الحركة القومية المتشدّد "دولت بهجلي" يده للسلام، رافعاً غصن الزيتون ومناشداً حزب العمال الكردستاني نبذ العنف، في خطوة دعمها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومذاك، عقد وفد من نوّاب "حزب المساواة وديمقراطية الشعوب ـ ديم" 3 اجتماعات معه في إيمرالي في 28 كانون الأول/ديسمبر و22 كانون الثاني/يناير و27 شباط/فبراير، وهو اليوم الذي دعا فيه أوجلان إلى إلقاء السلاح.

جاء تصريح أوجلان الأخير بعد سنوات على واحدة من أبرز محاولات السلام التي بدأت في عام 2013 بين أنقرة و"الكردستاني". في ذلك الوقت، أعلن أوجلان من سجنه وقف إطلاق النار، ودعا مقاتلي الحزب إلى الانسحاب من الأراضي التركية إلى شمال العراق. لكن هذه العملية انهارت في عام 2015 بعد تصاعد التوترات بين الجانبين.

وكان الرئيس إردوغان صرّح قبل شهور عن إمكانية إطلاق سراح مشروط لأوجلان، مقابل حلّ الحزب ونبذ العنف. ودعم إردوغان، ضمنياً (29 تشرين الأول/أكتوبر 2024)، اقتراحاً غير مسبوق من حليفه القومي (بهجلي) يمكن أن يؤدّي إلى الرأفة بزعيم حزب العمال الكردستاني وإطلاق سراحه، وهو ما يتناقض مع تصريح سابق لإردوغان رفض فيه إطلاق سراح أوجلان واتهمه بقاتل الأطفال. 

مع دعوة أوجلان لحلّ حزبه وإلقاء السلاح، تزايد الحديث عن إمكانية التوصّل إلى صفقة تضمن إنهاء الصراع المسلّح مقابل الإفراج عنه. وقد أيّدت الدول الغربية هذه الدعوة، ولكن الدعوة الأبرز جاءت من زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني الذي أكد دعمه للسلام في تركيا، وأمل في إطلاق سراح أوجلان. ويبقى السؤال: هل تشهد تركيا نهاية فصل طويل من المواجهات بين أنقرة والمسلحين الكرد؟ وهل يكون أوجلان مفتاح الحلّ أم أنّ العقبات السياسية ستبقيه خلف القضبان؟

من المفارقات أنّ بهجلي، الذي أسس أيضاً منظّمة "الذئاب الرمادية" اليمينية المتطرّفة، كان حتى عام 2016 من أشدّ معارضي إردوغان، بل إنه اتهمه بخيانة البلاد والأمة التركية، وانقلب اليوم ليغدو الحليف والشريك الأكثر ولاءً لإردوغان.

وفي مراسم بمناسبة الذكرى الـ 101 لتأسيس الجمهورية التركية في أنقرة، دعا إردوغان إلى نهج منفتح مع "الكردستاني" إذا نبذ العنف وحلّ الحزب. وقد أثارت هذه التصريحات تفاؤلاً بين الكرد، الذين يعتبرون أوجلان رمزاً للنضال من أجل الاعتراف بحقوقهم، لكنها في الوقت ذاته أثارت تساؤلات حول الدوافع السياسية الكامنة وراءها. ورغم مرور أكثر من عقدين على اعتقاله وسجنه مدى الحياة، يظلّ أوجلان، الزعيم الكردي المؤسس لحزب العمال الكردستاني، شخصية محورية في أيّ حديث عن القضية الكردية في تركيا والمنطقة.

قبل عقد من الزمن، كان المشهد السياسي مختلفاً تماماً، فقد كان إردوغان بحاجة إلى الأصوات للانتخابات الرئاسية لعام 2014 والانتخابات البرلمانية لعام 2015. وكان كسب دعم الكرد من خلال تشجيعهم على إلقاء أسلحتهم والمشاركة في العملية السياسية عاملاً أساسياً لتحقيق هذا الهدف.

وبعد الانتخابات الرئاسية لعام 2014، حصل صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك لـ "حزب الشعوب الديمقراطي (حزب المساواة وديمقراطية الشعوب ـ ديم حالياً)" المؤيّد للكرد، على المركز الثالث بنسبة تقلّ قليلاً عن 10 في المئة من الأصوات. وفي عام 2015، جاء "حزب الشعوب الديمقراطي" في المركز الرابع بنسبة تزيد قليلاً عن 13 في المئة من الأصوات، وفاز بـ 80 مقعداً من أصل 550 في البرلمان. وقد وضعت هذه النتيجة الحزب على قدم المساواة مع القوميّين المتشدّدين بقيادة بهجلي، وأطلقت الصحافة الدولية على دميرطاش لقب "أوباما الكرد"، بسبب التزايد المضطرد لتأثيره بشكل ملحوظ.

ولكن في تموز/يوليو 2015، انهارت محادثات السلام مع "حزب العمال الكردستاني". واتهم ديمرطاش إردوغان وحزبه الحاكم (العدالة والتنمية)، بإعادة إطلاق العمليات العسكرية لكسب الدعم الانتخابي. ولكن إردوغان اعتبر ذلك النقد تجاوزاً للحدود، واعتُقل ديمرطاش في عام 2016 بتهم التحريض على العنف، ولا يزال في السجن منذ ذلك الحين.

وقد أعادت الانتخابات البرلمانية لعام 2015 تشكيل المشهد السياسي في تركيا بشكل كبير. فقد حوّل الناخبون الكرد دعمهم إلى "حزب الشعوب الديمقراطي"، مما دفعه إلى البرلمان وتسبّب في فقدان "حزب العدالة والتنمية" أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى منذ عام 2002.

وفشلت محاولات تشكيل حكومة ائتلافية، ما استلزم إجراء انتخابات جديدة. ولكن الأشهر الستة التي سبقت إعادة الانتخابات شهدت هجمات من "حزب العمال الكردستاني" وأخرى إرهابية من تنظيم "داعش"، فدفعت هذه الفوضى الناخبين إلى العودة لدعم "حزب العدالة والتنمية"، الذي استعاد أغلبيته البرلمانية. وهذه المرة أيضاً، تظلّ الاعتبارات السياسية هي الحجر الأساسي للعملية الحالية، التي يقودها بهجلي.

وفي ظلّ تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم بين الناخبين الكرد، وسعي إردوغان لتعديل الدستور لتمديد فترة حكمه، بدت تلك التصريحات محاولة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. لكنها أيضاً أتت في سياق إقليمي معقّد، حيث تتجاوز القضية الكردية حدود تركيا لتشمل سوريا والعراق وإيران، مما يجعل أيّ تطوّرات في هذا الملف ذات تأثيرات واسعة على استقرار المنطقة ككلّ. لكن خلف هذا التفاؤل، تقف تحدّيات كبيرة قد تعيق أيّ محاولة للسلام. فبينما يرى البعض في إطلاق سراح أوجلان خطوة نحو إنهاء صراع دامٍ استمر لعقود، يرى آخرون أنها مجرّد تحرّك تكتيكي لتعزيز مكانة إردوغان السياسية.

منذ البدء حمل أوجلان اسماً ذا دلالة قوية، فـ "أوجلان" تعني في اللغة التركية والكردية "المنتقم" أو "طالب الانتقام"، وهو ما يعكس النهج الذي تبنّاه في قيادته لحزب العمال الكردستاني منذ تأسيسه عام 1978.

وقد طالب أوجلان بأنّ يكون الكرد شركاء في المبنى التركي لا أن يكونوا نواطير... ولكن هل يؤتمن إردوغان؟