حديث الخامنئي… حدّ السيف في وجه الاستكبار
كلام الإمام الخامنئي بمثابة خريطة طريق لعصر ما بعد الهيمنة، حيث تسقط شرعية القوة أمام قوة الشرعية، وتتحول المنطقة من ساحة نفوذ أمريكي إلى محور مقاومة.
-
كلام الإمام الخامنئي بمثابة خريطة طريق لعصر ما بعد الهيمنة.
يقول الإمام السيد علي الخامنئي: «لن يكون طلب الأمريكيين للتعاون مع إيران قابلًا للدراسة لا في المستقبل القريب ولا البعيد، إلا إذا قطعت أمريكا دعمها الكامل للنظام الصهيوني الملعون، وسحبت قواعدها العسكرية من المنطقة، ولم تتدخل في شؤونها.»
هذا الكلام ليس تصريحًا سياسيًا عابرًا، بل إعلان مبدأ استراتيجي يرسم معالم الصراع بين محور الاستكبار ومحور الاستقلال. فالإمام لا يتحدث من موقع الرفض الانفعالي أو من حسابات سياسية مؤقتة، بل من رؤية شاملة ترى أن أصل المشكلة ليس في شكل العلاقة مع أمريكا، بل في طبيعتها العدوانية القائمة على الهيمنة والسيطرة. فشروطه الثلاثة ليست مطالب تفاوضية، بل اختبار لجوهر العدالة في سلوك الولايات المتحدة التي تمارس دور المستكبر العالمي منذ عقود.
إن اشتراط الإمام لقطع الدعم الأمريكي عن الكيان الصهيوني يعكس إدراكًا عميقًا لطبيعة العلاقة البنيوية بين واشنطن وتل أبيب. فإيران تدرك أن هذا الكيان ليس مجرد حليف سياسي، بل هو أداة وجودية للمشروع الأمريكي في المنطقة، ومركز ثقله العسكري والاستخباري. لذا، فإن أي تعاون لا يمكن أن يكون ممكنًا ما دامت أمريكا تحمي هذا الكيان الغاصب وتبرر جرائمه. ففك هذا الارتباط هو الشرط الأول للتحرر من منظومة الظلم، وهو ما يجعل كلام الإمام بمثابة نقطة كسر للمعادلة الأمريكية في الشرق الأوسط.
أما قوله عن سحب القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة، فهو ليس مطلبًا شعاراتيًا، بل قراءة أمنية دقيقة لطبيعة التوازنات. فهذه القواعد التي تنتشر في الخليج والعراق وسوريا تشكّل أدوات احتلال غير معلنة، تزرع الفتنة وتكرّس التبعية وتمنع قيام نظام أمني إقليمي مستقل. حين يقول الإمام الخامنئي إن التعاون لا يُدرس ما لم تنسحب هذه القواعد، فهو يضع الأساس لاستراتيجية جديدة في الأمن الإقليمي تقوم على مبدأ “الأمن للجميع لا ضد أحد”، وتعيد السيادة لأصحاب الأرض بدل أن تبقى رهينة للجيوش الأجنبية.
ويضيف الإمام شرطه الثالث: أن تكفّ أمريكا عن التدخل في شؤون المنطقة. وهو شرط سياسي وأخلاقي في آن، لأن تدخلها لم يكن يومًا بدافع الإصلاح أو المساعدة، بل للهيمنة وتقسيم الشعوب واستنزاف مواردها. بهذا المعنى، كلام الإمام هو مشروع تحرر إقليمي قبل أن يكون موقفًا إيرانيًا، وهو دعوة إلى استعادة القرار المستقل، لا فقط لطهران، بل لكل العواصم التي سُلبت إرادتها باسم “التحالف” أو “المساعدات”.
ومن زاوية استراتيجية أعمق، يحمل كلام الإمام الخامنئي رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج في آنٍ واحد. إلى الداخل، هو تأكيد على أن الثورة الإسلامية باقية على نهجها، لا تنخدع ببريق الشعارات الغربية، ولا تساوم على استقلالها مقابل وعود جوفاء. وأما إلى الخارج، فهو إعلان حازم بأن زمن الإملاء الأمريكي قد انتهى، وأن طهران ليست ساحة ضغط بل مركز قرار. فالإمام لا يرفض الحوار كمبدأ، بل يحدّد شروطه من موقع الندية، قائلاً بوضوح إن أبواب التعاون لا تُفتح إلا لمن يخلع عباءة الاستكبار، ويعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
هذا الموقف في عمقه يعيد تعريف الردع الإيراني، من ردعٍ عسكري إلى ردعٍ سياسي وفكري. فإيران لا ترفض التعاون من ضعف، بل تفرض شروطه من موقع القوة. وهي لا تسعى إلى عزلة، بل إلى صياغة علاقة متكافئة تضع حدًا لقرونٍ من التبعية. في هذا المعنى، تتحول كلمات الإمام إلى ميثاق للكرامة في السياسة الدولية، إذ يضع من خلالها قاعدة جديدة مفادها أن التعاون بلا عدل هو خضوع، وأن الحوار بلا مساواة هو استسلام.
ومع كل ما في هذه الرؤية من وضوح وثبات، يبقى السؤال الواقعي مطروحًا: هل يمكن لأمريكا أن تحقق ما طلبه الإمام الخامنئي؟ الجواب أن ذلك يكاد يكون مستحيلًا، لأن ما طلبه الإمام يضرب أساس المشروع الأمريكي لا شكله الخارجي. فوقف دعم الكيان الصهيوني يعني انهيار المحور الذي بُني عليه النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وسحب القواعد يعني التخلي عن أدوات السيطرة والابتزاز التي تمسك واشنطن بها رقاب الأنظمة، ووقف التدخل يعني التراجع عن دورها التاريخي كقوة وصاية عالمية. لو فعلت أمريكا ذلك، لفقدت معناها الإمبراطوري، وتحولت إلى دولة عادية بلا نفوذ، وهذا ما لن تسمح به نخبها الحاكمة ولا مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
لكن الإمام الخامنئي، وهو العالم بالتحولات الكبرى، لا يضع هذه الشروط انتظارًا لامتثال واشنطن، بل لتثبيت موقف مبدئي ووعي عالمي جديد. فهو يدرك أن أمريكا لن تغيّر جوهرها الاستكباري، لكن التاريخ نفسه يتجه نحو ما أراده: انكماش الهيمنة الأمريكية وصعود محور الاستقلال. فالعالم لم يعد أحادي القطب، والولايات المتحدة تعاني من أزماتها الداخلية وتراجع نفوذها في الخارج، بينما تتمدد قوى المقاومة من فلسطين إلى لبنان واليمن والعراق وسوريا، حتى باتت هي التي تفرض الإيقاع، لا العكس.
بذلك يصبح كلام الإمام الخامنئي بمثابة خريطة طريق لعصر ما بعد الهيمنة، حيث تسقط شرعية القوة أمام قوة الشرعية، وتتحول المنطقة من ساحة نفوذ أمريكي إلى محور مقاومة مستقلّ يكتب تاريخه بيده. إن الإمام لم يخاطب أمريكا ليقنعها، بل خاطب العالم ليكشفها، مؤكّدًا أن الطريق إلى الكرامة لا يمر عبر واشنطن، وأن من أراد السلام العادل فعليه أن يخلع رداء الاستكبار أولًا. فالحق لا يُشترط، والكرامة لا تُستجدى، والحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بإرادةٍ تعرف أن الله مع الذين لا يركعون إلا له.