سرّية طوفان الأقصى بين منطق الضرورة وسقوط العتب

ما بعد «طوفان الأقصى» ليس كما قبله؛ فالمعادلات اهتزّت، واليقين تبدّد، والمفاهيم التقليدية للتحالف والعدو والصديق دخلت مرحلة مراجعة عميقة.

  • هل أخفت حماس خطة طوفان الأقصى عن حلفائها فقط؟ (أرشيف).
    هل أخفت حماس خطة طوفان الأقصى عن حلفائها فقط؟ (أرشيف).

في ظلال الذكرى الثانية لعملية طوفان الأقصى ما زال كثير من الأسئلة الكبرى يطرق رؤوس مؤيدي ومعارضي وحتى أعداء الطوفان، من بين أهم هذه الأسئلة التي تراود أبناء معسكر المقاومة هو: من الذي كان يعلم بهذه العملية؟، وهل كان المحور كله على علم ولكن ساعة الصفر فقط كانت مجهولة؟، أم أن حماس وحدها استفردت بالتخطيط والتنفيذ ومن ثم ورطت حلفاءها في معركة لم يكونوا قد استعدوا وتجهزوا لها؟ 

بالرغم من انقضاء عامين كاملين على بدء معركة طوفان الأقصى، وبالرغم من التطورات والتحولات الكبرى التي شهدتها المعركة، إلا أن هذا السؤال ما زال مثار قلق بين أبناء تيار ما كان يُعرف "بمحور المقاومة"، فبعضهم من يرى بأن حماس استفردت بقرار بدء الحرب وأخفت عن حلفائها الخطة، وذهبت نحو فتح جبهة كبرى ومعركة غير تقليدية مع العدو الصهيوني من دون أن تعطي ولو إشارة واحدة لحلفائها، ومن ثم طالبتهم بالانخراط في المعركة، وهذا ما اعتبره البعض "توريطة"، نتج عنها ما نتج من ضربات عنيفة تلقاها حزب الله وصلت إلى حد اغتيال قياداته من الصف الأول والثاني والثالث وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصر الله، ومن ثم سقوط الأسد وبعدها حرب إيران التي قُضي فيها على قياداتها العسكرية العليا في يوم واحد وتوجيه ضربات قاسية للنظام الإيراني أخلّت بتوازنه وجعلته ينكفئ على نفسه.

هل أخفت حماس خطة طوفان الأقصى عن حلفائها فقط؟

في الحقيقة، حماس لم تُخفِ الخطة عن حلفائها بقدر ما أخفتها عن العالم بأسره، بما في ذلك عن جسدها التنظيمي الواسع. وهذا ما أكده كثيرون من قادرة حماس والمحور خلال العامين المنصرمين، وكان من بينهم قائد فيلق القدس في الحرس الثوري إسماعيل قاآني حيث أكد بأن الشهيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس هو شخصياً لم يكن يعلم بهذه المعركة، وأنه في صبيحة يوم السابع من أكتوبر كان يستعد للسفر إلى العراق وقد أُعيد قبل أن يغادر بلحظات. لم يكن القرار موجهاً ضد المحور، بل ضد فكرة "التسريب" بكل أشكاله. كانت السرية بالنسبة إلى من صاغوا الخطة، جزءاً من الاستراتيجية وليست تفصيلاً تقنياً. فالمعركة، كما فهمها محمد الضيف ويحيى السنوار، لم تكن عملية عسكرية فحسب، بل كانت رهاناً على عنصر المفاجأة كآخر ما تبقّى للفلسطينيين في ميزان القوة.

حماس، وهي تراقب عن كثب اختراقات العدو في المحيط العربي والإقليمي، أدركت أن السرّ حين يتجاوز أصابع اليد الواحدة يصبح خبراً عابراً في أجهزة الأمن الإسرائيلية. لذلك فضّلت العزلة عن الحلفاء لا قطيعة معهم، لأن لحظة القرار كانت أكبر من التنسيق وأخطر من المجاملة السياسية. كانت الحركة تقول، عملياً: الثقة شيء، والأمن شيء آخر.

ثم إن السؤال الأعمق الذي يطل من وراء الستار هو: هل كانت حماس تخشى تسريب الخطة، أم كانت تخشى أن يُثنيها "الأصدقاء" عن تنفيذها؟

ففي قلب المعادلة، كانت قناعة لدى القيادة بأن المنطقة كلّها – بمن فيها من حلفاء وخصوم على السواء – ليست في مزاج الحرب الشاملة، وأن أي تشاور موسّع قد يُفرغ الفعل من جرأته أو يُحيله إلى مجرد ورقة تفاوض. ومن هنا، لم يكن الإخفاء موجهاً ضد "المحور"، بل ضد الجمود، ضد الانتظار الطويل على بوابات "التوازن" الذي لا يأتي أبداً.

باختصار، حماس لم تُخفِ طوفانها عن الحلفاء فقط؛ أخفته عن العالم كي تصنع لحظة تاريخية خالصة الإرادة الفلسطينية، وهذا ما عبّر عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله غير مرة عندما أكد بأن عملية طوفان الأقصى كانت عملية فلسطينية خالصة بالتخطيط والقرار والتنفيذ، لحظة أرادت أن تقول فيها الحركة إن المبادرة يمكن أن تولد من قلب الحصار، وإن السرّ أحياناً هو السلاح الأخير للمقاومين حين تُغلق كل الأبواب.

 العتب بعد انكشاف الاختراقات... رفاهية لم تعد ممكنة

بعد انكشاف حجم الاختراقات الأمنية التي طالت عدداً من مكوّنات محور المقاومة، لم يعد العتب على حماس بسبب سرّية خطة «طوفان الأقصى» موقفاً منطقياً أو عملياً. فقد أظهرت الوقائع الميدانية والاستخبارية أن العدو كان يمتلك قدرة عالية على التسلل إلى دوائر القرار والميدان في أكثر من ساحة، ما يعني أن توسيع دائرة المعرفة بالعملية كان سيعرّضها لخطر الإحباط قبل أن تبدأ. من هذا المنطلق، لم يكن قرار قيادة حماس في غزة بالعزلة الأمنية تجاوزاً للحلفاء، بل إجراءً وقائياً ضرورياً لضمان نجاح العملية وحماية سريّتها.

اللوم الذي وُجّه إلى الحركة في البداية استند إلى منطق سياسي وعاطفي، يفترض أن محور المقاومة كيان متكامل في الرؤية والخطة. لكن التجربة أثبتت أن هذا التصور مثالي أكثر مما هو واقعي، وأن كل طرف داخل المحور يعمل وفق حساباته الأمنية والسياسية الخاصة. لذلك، كان من الطبيعي أن تختار قيادة حماس مسار السرّية المطلقة، خصوصاً في ظل إدراكها أن أي تسريب كان كفيلاً بنسف المفاجأة التي شكّلت جوهر العملية.

اليوم، ومع انكشاف مستوى الاختراقات التي طالت حتى الدوائر العليا في بعض ساحات المحور، أصبح استمرار العتب رفاهية غير مبرّرة. المطلوب لم يعد تبرير القرار أو انتقاده، بل مراجعة منظومة العمل الأمني والإقليمي برمّتها. فالمسألة لم تعد من أخفى عن من، بل كيف يمكن بناء مناعة أمنية مشتركة تتيح تنسيقاً فاعلاً من دون أن تتحول أي معلومة إلى ثغرة.

في نهاية المطاف، لم تكن سرّية «طوفان الأقصى» نزوة تنظيمية ولا تمرّداً على التحالفات، بل تعبيراً عن لحظة وعي حادّة بميزان القوة والاختراق. أدركت حماس أن الحرب في هذا العصر لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالمعلومة المحصّنة، وبالقدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن الضجيج السياسي والحسابات الداخلية والإقليمية المتشابكة.
لقد أثبتت التجربة أن من يمتلك السرّ يمتلك زمام المبادرة، وأن في زمن الرصد الشامل والتجسّس المتقدم، يصبح الكتمان شكلاً من أشكال المقاومة.

ما بعد «طوفان الأقصى» ليس كما قبله؛ فالمعادلات اهتزّت، واليقين تبدّد، والمفاهيم التقليدية للتحالف والعدو والصديق دخلت مرحلة مراجعة عميقة. ومع سقوط وهم الأمان المعلوماتي في الإقليم، بات على أطراف ما عرف سابقاً بمحور المقاومة أن يعيدوا تعريف التنسيق لا بوصفه تبادلاً في التفاصيل، بل اتفاقاً في الاتجاهات الكبرى مع احترام خصوصية كل ساحة وضروراتها الأمنية.

هكذا، لم تعد الأسئلة تدور حول «من كان يعلم؟» بل حول "من تعلّم؟"

فمن فهم دروس السابع من أكتوبر، أدرك أن السرّ ليس ضعفاً في الثقة، بل شرطاً للبقاء، وأن المفاجأة لا تصنعها الكثرة، بل الإرادة الحرة حين تسبق الآخرين بخطوة واحدة في التاريخ.