عودة المقاتلين ...التهديد المقبل
النقاش بشأن ملف الإرهابيين التونسيين في السجون السورية كان أولى الملفات التي طُرحت على الطاولة بين البلدين في إثر عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما قبل نحو العامين.
لم تقلب التطوّرات المتسارعة في سوريا وانهيار نظام بشار الأسد وما رافقه من "تحرير" للمعتقلين في عدة سجون، اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وتخلط أوراق من ورائها من اللاعبين الدوليين فحسب، بل أعادت إلى الواجهة ملفات خطرة، كثيراً ما تمّ تناسيها أو تجاهلها، ولعل أبرز هذه الملفات التي تشغل الرأي العام العربي كما الدولي "خطر الجماعات الإرهابية المتشددة والمتعددة الجنسيات"، وخصوصاً تلك التي انضمّت وعلى مدى سنوات إلى جماعات مسلّحة في سوريا في إطار ما يسمّى بـ "الربيع العربي" (العبري)، ويبدو في ظل هذه التطورات غير المسبوقة أن تونس معنية بشكل مباشر بها، خصوصاً بعد تأكيدات رسمية بالتحاق الآلاف من الشباب التونسي ببؤر التوتر في سوريا خلال العشرية السوداء.
قنابل موقوتة
ليعود الحديث مجدّداً في تونس عن عودة المقاتلين المتشدّدين من سوريا، وسط تزايد تحذيرات من خطر عودتهم على الأمن القومي للبلاد والمطالبة بضرورة استعداد الدولة لمثل هذه السناريوهات المخيفة، ووضع خطط أمنية واستراتيجية محكمة.
ورغم أنها ليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الملف الحارق، حيث تمّ التطرّق له سابقاً على الأقل مرتين، الأولى عام 2014 والثانية بعد عام 2017 وتباينت آنذاك المواقف.
المخيف اليوم والأخطر هو عودة هؤلاء في إطار مجموعات منظّمة وإعادة نشاطاتهم الإرهابية تنفيذاً لمخططات خارجية، وهو ما يستدعي اليقظة الأمنية الكبيرة، خصوصاً في ظل دعوات هذه الجماعات إلى إعادة التنظيم والنشاط، وهذا يبقى أمراً ممكناً إذا ما توفّر دعم التنظيمات الإرهابية، منها تنظيم "داعش" الذي ما زال يتحرّك في سوريا والعراق وأيضاً في غرب أفريقيا التي أصبحت تمثّل معقلاً له، إضافة إلى تنظيم القاعدة وما نشره زعميها سيف العدل في الصيف الماضي ودعوته "المقاتلين الأجانب للسفر إلى أفغانستان، والخضوع للتدريب المناسب، ثم العودة إلى بلدانهم الأصلية لتطبيق الدروس المستفادة من التمرّد الناجح لحركة طالبان". كل هذا يجعل من إمكانية التجمّع والتدرّب وإحياء نشاط هذه الجماعات وتوظيف تحرّكها في ملفات إقليمية في بلدان أخرى يبقى فرضية ممكنة وقائمة.
وفي هذا السياق، حذر "المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة" في تونس من العودة التي وصفها بـ "الكثيفة" للتونسيين الذين يُعَدّون بالآلاف حيث تمّ تسفيرهم من تونس بطرق مختلفة إلى سوريا، وقد تمّ إطلاق سراحهم من السجون السورية "بحسب بيان له. قائلاً إن "الوضع في الشرق الأوسط لا يخلو من أخطار على تونس".
ودعا المرصد السلطة التونسية إلى "تولي الحذر الشديد من عودة هؤلاء إلى البلاد ورسم الخطط الحكيمة للتعاطي معهم، لا فقط لِما يمثّلونه من تطرّف ديني عنيف يُشكّل خطراً جسيماً على الصبغة المدنية للدولة التونسية"، وإنما أيضاً ''لما يُمكن أن يكونوا مُكلّفين به من قبل أطراف استعمارية مُتسلّطة"، بحسب نص البيان.
ويرى متابعون للشأن التونسي أن عودة "المقاتلين من سوريا" هو بمثابة القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة إذا لم يتمّ التعامل مع هذه التطوّرات بجدية كبيرة لما يمكن أن يمثّله هؤلاء من خطر على مدنية الدولة وأمنها، في ظل مخاوف من أن تتولى جهات إقليمية تحريك هؤلاء لإرباك الوضع السياسي في تونس ضمن مقاربة أشمل تسعى لإحياء موجة "الربيع العربي" بشكل جديد خدمة لأجندات خارجية بدت ملامحها تتوضح.
ملف التسفير
ويعيد تفجّر الجدل حول عودة المقاتلين التونسيين في سوريا الحديث مجدّداً عما يعرف بقضية تسفير آلاف الشباب الى سوريا خلال فترة حكم حركة النهضة. حيث توجّهت آنذاك أصابع الاتهام إلى الحركة بتسهيل سفرهم إلى سوريا والعراق عبر تركيا.
ولا تزال هذه القضية حتى اليوم محل جدل سياسي وقضائي، خاصة بعد فتح النيابة العامة تحقيقاً في هذا الملف سنة 2022 وشملت التحقيقات، نحو 100 شخصية سياسية وأمنية، على رأسهم قيادات بارزة في حركة النهضة من بينها علي العريض، الذي كان وزيراً للداخلية (2011 و2012) في ذروة فترة التحاق مئات التونسيين المتشددين للقتال في الخارج، ورئيس الحركة راشد الغنوشي ونور الدين البحيري (وزير العدل الأسبق) إلى جانب عدد من القيادات الأمنية التي عملت طوال الأعوام التي قاد فيها حزب النهضة الحكم في البلاد، والذين تمّ اعتقالهم منذ ذلك التاريخ على ذمة القضية.
وتشير عدة تقارير إلى أنّ آلاف الشباب التونسيين هاجروا في تلك الفترة إلى ما يعرف ببؤر التوتر وانضموا إلى جماعات إرهابية من بينها "داعش"، وشاركوا في الحرب على الأراضي السورية، لكن تقارير أمنية أخرى تحدّثت فيما بعد عن عودة المئات إلى تونس وإيداع عدد منهم السجون، فيما جرى إخضاع آخرين إلى الرقابة الإدارية والأمنية وإجراءات المنع من السفر.
والجدير بالذكر أن النقاش بشأن ملف الإرهابيين التونسيين في السجون السورية كان أولى الملفات التي طُرحت على الطاولة بين البلدين في إثر عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما قبل نحو العامين بعد قطع العلاقات الرسمية لأكثر من 12 سنة في إثر ما يعرف بمؤتمر أصدقاء سوريا الذي احتضنته تونس خلال رئاسة المنصف المرزوقي للبلاد.
ليبيا بوابة محتملة
وزاد حرق المقار والمؤسسات الأمنية في سوريا وإتلاف قاعدة البيانات وكلّ الوثائق التي تثبت تورّط هؤلاء الإرهابيين وتكشف عن هوياتهم، من تعقيد الوضع، خصوصاً في ظل تزايد تضارب الأرقام المتعلقة بالعدد الحقيقي للتونسيين الذين قاتلوا في سوريا، وسط مخاوف من تسللهم عبر الحدود البرية من بلدان مجاورة، أو دخول البلاد بهويات مزوّرة عبر المعابر الرسمية.
وتمثّل الحدود مع ليبيا الخطر الأكبر خصوصاً في ظل حالة الانقسامات والصراعات التي أضعفت قدرتها على حماية حدودها.
وتُعتبر ليبيا بحسب مراقبين الحلقة الأضعف والتي قد تكون ممراً آمناً لهؤلاء الإرهابيين ما يسهّل إعادة تنظيم أنفسهم من جديد مستغلّين عدم الاستقرار على أراضيها وتواصل الانقسامات السياسية فيها، ما يؤشر إلى أن خطر هذه الجماعات لا يقتصر على تونس فحسب بل على كل شمال أفريقيا خصوصاً البلدان المغاربية.
ولعل الشريط الوثائقي الذي بثّته القنوات الحكومية الجزائرية أخيراً عن إحباط الاستخبارات الجزائرية خطة لتجنيد مواطنين إرهابيين"، بينهم من نشط في سوريا والعراق مع تنظيم "داعش"، بهدف "ضرب استقرار البلاد". يؤكد سعي جهات خارجية لزعزعة استقرار بلدان المغرب العربي. ما يتطلّب يقظة كبيرة ووضع خطة استراتيجية بين ليبيا والجزائر وتونس خصوصاً بعد اتفاق قادة الدول الثلاث خلال قمة ثلاثية سابقة على "تكوين فرق عمل مشتركة يعهد إليها تنسيق الجهود لحماية أمن الحدود المشتركة من أخطار وتبعات الهجرة غير النظامية، وغيرها من مظاهر الجريمة المنظّمة، وفق مقاربة تشاركية".