ناصر اللحام.. قوس قزح الإعلام الحر

حكايتك يا ناصر لن تُكتب بهزيمة. فأنت الحصيف، المثقف، المدجّج بالإيمان بعدالة فلسطين، تحمل قضية شعبك على عاتقك، ستنتصر على كل قوة غاشمة؛ لتثبت أن الحرية، وإن تأخرت، لا تفترسها مخالب الاحتلال.

  • في صحبة ناصر اللحام، أدركت أن قصص الوطن لا تُروى بالكلمات فقط.
    في صحبة ناصر اللحام، أدركت أن قصص الوطن لا تُروى بالكلمات فقط.

أن تسافر مع ناصر اللحام يعني أنك تحلّق مع قوس قزح في سماء الصفاء. فهو رجل لا يشبه إلا ذاته؛ يجلس بين الناس، فيغدو في لحظات معدودة محطّ أنظار الجميع، وحين يتحدث تصغي إليه بشغف، كأنك تستمع إلى حكاية من ألف ليلة وليلة بنبرة دافئة ومتمرّدة في آنٍ معاً.

يتحدث بسلاسة تلامس شغاف القلب، فيحوّل أي حديث عابر إلى غيمات تمطر بهجة وتزهر سعادة. يسرد الواقع المؤلم، لكن يغلّفه بالنكتة، وينثر من حوله دفئاً لا يُقاوم. حتى في أحلك اللحظات، تجده يشعل شمعة تفاؤل ليذكّرنا أن الإنسان يحتاج إلى بصيص ضوء كي يمضي قدماً.

هذا هو ناصر؛ الكاريزما تنحني أمامه ولا تليق إلا بناصر، وتجعله عصيّاً على النسيان.

لم نلتقِ يوماً في فلسطين بسبب حواجز الاحتلال. لم تطأ أقدامنا التراب عينه، ولم نسمع معاً صدى الأذان أو أجراس الكنائس. كان هو في أزقة بيت لحم العتيقة، وأنا بين أحضان غزة العزة. وشاء القدر أن نلتقي خارج الوطن.

في عام 2014، قررت قناة الميادين إيفادنا إلى كوبا. جاءت الرحلة بعد حرب دامية على قطاع غزة دامت 51 يوماً، تركتني جسداً محطماً وروحاً متعبة. لم تكن كوبا وحدها التي شفتني من ذاك الإنهاك، بل كان أيضاً ناصر اللحام.

في الطائرة إلى هافانا، بدا كطفل يكتشف العالم للمرة الأولى. أخبرني وهو ينظر بعيداً:

"السماء هنا هي نفسها التي كانت فوق مخيم الدهيشة، لكن السحاب هنا يبدو أكثر فرحاً".
ابتسمتُ وقلت له:

 "ترى، أيهما أجمل: فلسطين أم كوبا؟".

وصلنا إلى هافانا بعد مشوار طويل، كأنه عبور من زمن إلى آخر. في شوارعها الملوّنة، رأينا ملامح فلسطين: أناس بسطاء يبتسمون رغم القهر، موسيقى صاخبة تضفي على المشهد رونقاً خاصاً، وجدران صامتة تنطق بما لا يُقال، وترفع صور الثائرين بدل الإعلانات. 

مشى ناصر وسط الشارع كأنه واحد منهم؛ يبادل المارة التحية بالإسبانية المكسّرة، يوزّع الابتسامات في كل اتجاه، ويتوقف ليشتري سيجاراً من كشك قديم. وصلنا إلى ساحة كبيرة، وإذ بصورة تشي جيفارا معلّقة على الجدار.

الساحة كانت صامتة إلا من نسمات بحر الكاريبي وهديل حمام يرفرف من حولنا. حدّق ناصر في صورة تشي، أخرج سيجاره من جيبه، أشعله ببطء، ونفث دخاناً كثيفاً امتزج برائحة البحر والملح، ثم صرخ:

"تشي يشبهنا- يا صديقتي- لا يعرف التراجع ولا الاستسلام. وكما قال إذا قاتلت فإنك ستتمكن من أن تكون حـراً، وإذا لـم تقـاتـل فقد خــسرت".

جلسنا على حافة الرصيف، والشمس تغفو على كتف الأفق، وظل يتحدث عن فلسطين النضال والجمال، عن المخيم الذي يسكنه في الحل والترحال، ويدندن: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". وأضاف:

"تعلمت من تشي أن كل ثورة تبدأ بحلم، وهي ليست على الجبهات فقط. وأشار إلى صدره: "الحب هو الثورة الأولى، حتى هنا عرف الثوار أنهم من دون حب منكسرون ومهزومون".

ثم التفت إليّ، وأردف:

"هؤلاء الثائرون عاشوا الفقر والجوع والمنفى. ومع ذلك، ظلّت قلوبهم تنبض للحب والحرية. لا فرق". 

في المساء، جلسنا في مقهى صغير يطل على البحر، موسيقى "السالسا" تملأ المكان. الناس يرقصون بأرواح خفيفة كرياح رقيقة طليقة، تعبر المسافات بخفة وشوق، يتمايلون مع الأنغام وكأن لا حصار ولا همّ في الدنيا.

أشعل ناصر سيجاراً آخر، وعيناه تتبعان الراقصين. وهمس بنصف ابتسامة:

"نحن لا نعرف كيف نرقص مثلهم… المخيمات علمتنا أن نركض فقط".

في اليوم الأخير، قصدنا الشاطئ. جلسنا على الرمل نتأمل الشمس وهي تصبغ صفحة البحر بألوانها البهية.

تحدث وعيناه تراقبان الأفق:

"البحر يشبه قضيتنا الفلسطينية: واسع كالحلم الممتد في صدورنا، حزين كأمهات الشهداء، عميق بأسراره التي لا يعرفها إلا من غاص فيه ولا يبوح بها. يحمل ألمنا وأملنا معاً، كأن ماءه ممزوج بدمنا، يروي للعالم مظلوميتنا التي لا تنتهي".

كتب بكفه على الرمل: فلسطين. غمرتها الموجة، فابتسم بأسى ثم قال:

"حتى لو محاها الموج ألف مرة، فهي محفورة في القلوب".

في صحبة ناصر اللحام، أدركت أن قصص الوطن لا تُروى بالكلمات فقط، بل بالدمعة التي تختبئ خلف الضحكة، وبالخطى التي تتهجّى حروف الأزقة القديمة.

ناصر اللحام الصحافي المخضرم يؤمن أن الصحافة معركة كرامة، لا مهنة وحسب. عشق إماطة اللثام عن جرائم الاحتلال، وعرض الحقيقة بأبلغ وأصدق ما يكون العرض. وفي عُرف الاحتلال، الكلمة أشد خطراً وفتكاً من الرصاصة؛ لذلك تم اعتقاله كمحاولة بائسة لإسكاته ضمن سياسات تكميم الأفواه وكي الوعي. 

ناصر اللحام خبِر زنازين الاحتلال وسبر أغوار عذاباتها أكثر من مرة؛ لكنه كعادته، يعود من خلف قضبان السجان أقوى، كمن يخرج من العتمة حاملاً في يده وردة لا تذبل، وإرادة صلبة لا تعرف الانكسار. 

ناصر، هل تذكر يوم وقفنا معاً على عتبات بيت أرنست همنغواي في كوبا؟ وكيف طال بنا الحديث عن رواية "الشيخ والبحر"، والتي صوّر فيها النهاية المؤسفة لذاك الصياد الكوبي البسيط والساذج أمام القرش، الذي كان يرمز إلى الرجل الأميركي الجشع، المسلح بالمال والقوة.

لكنني على يقين أن حكايتك يا ناصر، لن تُكتب بهزيمة. فأنت الحصيف، المثقف، المدجّج بالإيمان بعدالة فلسطين، تحمل قضية شعبك على عاتقك، ستنتصر على كل قوة غاشمة؛ لتثبت أن الحرية، وإن تأخرت، لا تفترسها مخالب الاحتلال.

أبو مارسيل صحافي شجاع. علّمتنا- يا صديقي- أن العدل والحق أقوى من الظلم والباطل، وأن الإنسان العاشق لوطنه هو آخر من ينكسر، وأنه بعد أعتى العواصف يطل قوس قزح إذا كان في الوجدان إيمان بالنصر وفي الحنجرة صوت لا يهادن أو يساوم.

على أحرَّ من الجمر، ننتظرك يا قوس قزح الإعلام الحر.