نتنياهو وحرب غزة: اعتبارات أمنية-سياسية أم "نهضة" توراتية؟
بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية تُطلق عليها أسماء مقتبسة من الأساطير التوراتية – مثل "عربات النار" و"عربات جدعون" – ما يؤشر إلى استخدام الذاكرة الدينية في تسويغ العنف.
-
لماذا هذا الإصرار على استمرار الحرب؟
"النية هذه المرة هي الاحتلال والبقاء"، هكذا لخّص وزير المالية الإسرائيلي وزعيم حزب "الصهيونية الدينية" بتسلئيل سموتريتش الغاية النهائية من الحرب الجارية في قطاع غزة، والتي تتجاوز – في نظره – منطق الردع إلى مشروع توسعي مفتوح.
منذ انطلاق حرب "سيوف حديدية"، لم تتوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية عن التصعيد في غزة، وصولاً إلى إعلان الحكومة الإسرائيلية عن عملية جديدة: "عربات جدعون". وتحت هذه الأسماء ذات الطابع التوراتي، تتصاعد الحرب، وتتسع أسئلتها: لماذا هذا الإصرار على استمرار الحرب، رغم أكلافها البشرية الباهظة، وفُرصِها الاستراتيجية الضائعة؟ وهل ما يدفع نتنياهو هو الاعتبارات الأمنية والسياسية التقليدية فقط؟ أم أن ما يجري أعمق من ذلك بكثير؟
بين الحرب والسياسة
من الواضح أن "إسرائيل" تدفع ثمناً متزايداً من جراء هذه الحرب. فإلى جانب الخسائر البشرية العسكرية والاقتصادية، تآكلت صورتها الدولية بصورة غير مسبوقة، وصولاً إلى "هاوية دبلوماسية"، خاصة بعد التقارير المتوالية من منظمات حقوقية تتحدث عن انتهاكات واسعة ضد المدنيين في غزة، واستخدام مفرط للقوة، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية في القطاع.
فالممارسات الإسرائيلية في غزة تجاوزت أي "تبرير أخلاقي" وتخطت حتى مرتكزات "السردية الدفاعية"، في ظل تصاعد الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، في حين يرى خبراء إسرائيليون أن هناك بدائل دفاعية أقل فتكاً كان يمكن أن تحقق النتائج الأمنية نفسها، من دون الحاجة إلى حشر الفلسطينيين بين خيارَي: الموت أو التهجير.
لكن نتنياهو، المحاصر بتحالف حكومي يميني متشدد، يبدو غير قادر – وربما غير راغب – في التراجع، إذ أصبح استمرار الحرب شرطاً لبقاء ائتلافه الحكومي، في ظل تهديدات مباشرة من شركائه، من مهووسي المشروع التوسعي- الإحلالي، بتفكيكه إن توقفت العمليات قبل "تحقيق الإنجاز".
أبعد من السياسة: البعد الأيديولوجي والديني
لكن الاعتبارات السياسية وحدها قد لا تفسِّر، كما يرى كثيرون، الإصرار على حرب تبدو بلا أفق، وبلا نهاية واضحة. فهناك بعد أيديولوجي – ديني متجذر بدأ يأخذ حيزاً أكبر في الخطاب السياسي الإسرائيلي، خاصة مع صعود أحزاب اليمين الديني القومي.
وتقوم هذه الرؤية، كما أشار المؤرخ الإسرائيلي الراحل "إسرائيل شاحاك" (1933-2001)، على مفهوم "الأرض المستردة"، أي الأرض التي يجب أن تعود إلى السيادة اليهودية – العامة أو الخاصة – عبر "استردادها" من "الأغيار" (غير اليهود)، وتحديداً الفلسطينيين. ويجري ترسيخ هذه العقيدة في المدارس والمجتمع، وهي تلقى صدى واسعاً بين أوساط سياسية ترى في تقليص عدد السكان غير اليهود هدفاً طويل الأمد.
ورغم اختلاف مكوّنات المجتمع الإسرائيلي وتعارضاته، فإن هناك توافقاً ضمنياً، عابراً للحدود السياسية والإيديولوجية: الدينية والقومية والعلمانية - باستثناء فلول اليسار الراديكالي- على أصالة فكرة "الحقوق التاريخية" في تبرير السيطرة على الأرض الفلسطينية، وهي فكرة مستمدة أساساً من النبع العقائدي التوراتي نفسه، ما قد يعني أن الخلافات الإسرائيلية بشأن الحرب، غالباً ما تتمحور حول الوسائل لا حول الأهداف.
ويُستدل على ذلك بما قاله ديفيد بن غوريون، أحد مؤسسي "إسرائيل" ورئيس وزرائها الأول (الزعيم الأسبق لحزب العمل الإسرائيلي)، عندما برّر خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أن الهدف الحقيقي للحرب هو "إعادة مملكة داوود وسليمان إلى حدودها التوراتية"، والتي تشمل – بحسب بعض التفسيرات الحاخامية – كامل سيناء، وجزءاً من شمال مصر، وصولاً إلى ضواحي القاهرة. كما رأى بعض الحاخامات البارزين (دوف ليؤور، من أهم الحاخامات الصهيونيين في "إسرائيل") أن فشل "إسرائيل" في غزو لبنان عام 1982 كان عقوبة إلهية نتيجة إعادة سيناء لمصر، باعتبارها جزءاً من "أرض إسرائيل" التوراتية.
وعلى الرغم من أن تلك التصورات كانت سائدة في مراحل التأسيس الأولى، إلا أن عودتها – بشكل أكثر وضوحاً – على لسان قادة الأحزاب الدينية القومية اليوم، مثل سموتريتش وبن غفير، تعيد إحياء سرديات دينية توراتية في صلب "السياسات البراغماتية"، كما يظهر في خطاب "الاحتلال والبقاء".
من "السيوف" إلى "النهضة"
ربما ليس من قبيل الصدفة أن يختار نتنياهو وصف الحرب لاحقاً بـ "حرب النهضة"، في تحوّل دلالي لا يخلو من الرمزية. فمفردة "النهضة" تتجاوز الحسابات العسكرية إلى رؤية توراتية تقوم على بعث الوجود اليهودي في ما يعتبرونه "أرض إسرائيل الكبرى"، وهي رؤية تستدعي تغييراً ديموغرافياً وجغرافياً جذرياً في غزة وسواها.
بل إن بعض العمليات العسكرية يُطلَق عليه أسماء مقتبسة من الأساطير التوراتية – مثل "عربات النار" و"عربات جدعون" – ما يؤشر على استخدام الذاكرة الدينية في تسويغ العنف السياسي والعسكري، وتحويله إلى جزء من "مهمة تاريخية مقدسة" لا مجرد حرب أُخرى لتحقيق أهداف عسكرية.
مع ذلك لا يمكن إنكار أن لنتنياهو اعتبارات شخصية ضاغطة، من الحفاظ على حكومته، إلى الإفلات من ملفاته القضائية بتهم الفساد والرشوة، لكن القراءة البحتة من هذا المنظور تُغفل جانباً أكثر عمقاً يتمثل في صعود خطاب ديني قومي يعتبر الحرب أداة لتحقيق مشروع "نهضة" توراتية، وإعادة تشكيل المنطقة على أساس عقائدي يتجاوز حدود الدولة إلى حدود "الرسالة"، في هذا السياق، قد لا تكون غزة هي النهاية، بل مجرد البداية.