ابتلاع الضفة الغربية: المشروع الصهيوني يكتمل بالحرق والطرد
ما يجري اليوم في الضفة الغربية لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد توسّع استيطاني عشوائي، بل هو سياسة مُمَنهجة تهدف إلى ضم المنطقة من دون إعلان رسمي.
-
واقع الضفة: بين السيطرة الإسرائيلية والتوسّع الاستيطاني.
تتدهور الأوضاع بشكل سريع في الضفة الغربية، بسبب التصاعد الحادّ في عنف المستوطنين، والذي يؤدي إلى تدمير منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم، وإرغامهم على النزوح من أراضيهم، فخلال الثُلث الأول من شهر يوليو/تموز الجاري، يمكن توثيق ما يزيد على 26 حالة اعتداء مباشر، بمعدل اعتداءين أو ثلاثة يومياً، وهو ما يتماشى مع معدلات الشهرين الماضيين، وقد تراوحت أنماط الاعتداء بين الطرد القسري وإطلاق الرصاص وتجريف الأراضي وسرقة مواشي الرعاة إلى جانب إضرام النيران في الأبنية والسيارات ودور العبادة، ويجري ذلك كله بدعمٍ شبه رسمي من "الجيش" الإسرائيلي.
ووفقاً لبيانات السلطة الفلسطينية، فإنه بالتزامن مع اندلاع الحرب في قطاع غزة، قتلت القوات الإسرائيلية والمستوطنون ما لا يقل عن 954 فلسطينياً، عدد منهم ينتمي إلى فصائل المقاومة، لكن النسبة الأكبر هم من المواطنين الفلسطينيين الذين لا يحملون سلاحاً، يجري ذلك في ظل تصريحات عدد من وزراء حكومة نتنياهو، تدعو إلى السيطرة العسكرية الكاملة على الضفة الغربية، والشروع في بناء مستوطنات جديدة، تضمن أسرلة المنطقة بأسرها.
ارتفاع وتيرة العنف أثار انتباه دوائر دولية عديدة، ولم تعُد المسألة محصورة في المجال السياسي العربي أو الإسلامي، فهناك جهات أوروبية مثل الخارجية الألمانية والاتحاد الأوروبي طالبت خلال الأيام القليلة الماضية بـ"ضرورة حماية الفلسطينيين من عنف المستوطنين، والتحقيق في الهجمات، وإدانة الجهات التي تقف خلفها".
واقع الضفة: بين السيطرة الإسرائيلية والتوسّع الاستيطاني
تمتد الضفة الغربية من نهر الأردن شرقاً حتى الخط الأخضر غرباً، وتمثّل 21٪ من مساحة فلسطين التاريخية التي تبلغ نحو 27 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها نحو 3.4مليون نسمة، مع التأكيد أن هذا الرقم لا يشمل سكان القدس الشرقية بالكامل، كما لا يضم المستوطنين الإسرائيليين، الذين يتراوح عددهم بين 700 ألف إلى 750 ألف مستوطن في الضفة.
بناءً على اتفاقية أوسلو، فإن الضفة مقسمة إلى ثلاث مناطق، أكبرها المنطقة (ج)، 60 ٪ من مساحة الضفة، وتخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة، مدنياً وأمنياً، وتشمل المستوطنات والطرق الالتفافية والأغوار، أما السلطة الفلسطينية، فتسيطر على 18٪ من مساحة الضفة ضمن حدود المنطقة (أ)، وتشمل مدناً كبرى مثل رام الله ونابلس وبيت لحم وجنين، لكن قوات الاحتلال تدخلها متى تشاء لتنفيذ اعتقالات أو عمليات عسكرية، أما بقية المساحة، فهي ضمن المنطقة (ب)، وتمثل نحو 22٪ من إجمالي مساحة الضفة، وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية، لكن أمنياً تحت السيطرة الإسرائيلية، وتشمل غالباً القرى والبلدات المحيطة بالمدن.
بنظرة موضوعية إلى الأوضاع، فإن "إسرائيل" تسيطر بشكل مباشر على 60 أو70٪ من الضفة الغربية، كما تتحكم في المعابر والحدود وخطوط المياه وشبكات الكهرباء، بينما السلطة الفلسطينية تدير فقط جيوباً سكانية معزولة في المنطقة (أ) وأجزاء من (ب)، أما عن المستوطنات، فهناك نحو 160 مستوطنة معترفاً بها من جانب حكومة الاحتلال، إلى جانب مئة بؤرة استيطانية غير شرعية (بحسب القانون الإسرائيلي ذاته).
خلال العامين الماضيين، تم الإعلان عن خطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية، وتوسيع المستوطنات القائمة، وتشريع بؤر جديدة، وبدأت حكومة نتنياهو في منح المستوطنين صلاحيات إدارية وأمنية في بعض المناطق (ج)، بما يشبه "الحكم الذاتي الاستيطاني".
تزامن ذلك مع قيام قوات الاحتلال بتنفيذ اعتقالات وعمليات اغتيال بشكل دوري حتى داخل المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، أمّا المستوطنون فقد تحوّلوا من مجرد أدوات غير رسمية للسيطرة على الأراضي، إلى رأس حربة في المشروع الصهيوني الهادف إلى فرض السيطرة الكاملة على الضفة الغربية وضمّها فعلياً إلى "إسرائيل".
حكومة يمينيّة تغذّي العنف وتخطط لضمّ الضفة
ما يميز هذه المرحلة هو الدعم العلني والصريح من حكومة بنيامين نتنياهو، التي تضم وزراء معروفين بمواقفهم المتطرفة مثل، إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، الذي صرح أكثر من مرة بأن الفلسطينيين "غرباء في أرض إسرائيل"، وكذلك بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، الذي يدير جزءاً من الإدارة المدنية في الضفة، ويسعى إلى تشريع عشرات البؤر الاستيطانية العشوائية.
ما يجري اليوم في الضفة الغربية لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد توسّع استيطاني عشوائي، بل هو سياسة مُمَنهجة تهدف إلى ضم المنطقة من دون إعلان رسمي، وبدلًا من مواجهة ردود الفعل الدولية التي قد تترتب على ضم قانوني، تقوم "إسرائيل" بـ:
أولاً، فرض واقع جديد على الأرض، من خلال التوسع الاستيطاني المتواصل، كما هو القرار الإسرائيلي الصادر في مايو/أيار الماضي، بإنشاء 22 مستوطنة جديدة، من ضمنها أربع على طول الحدود مع الأردن.
ثانياً، تحويل البؤر العشوائية إلى مستوطنات رسمية، وهي ممارسة يتم اتباعها منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، إذ يسيطر المستوطنون على إحدى النقاط الاستراتيجية، ثم يقيمون مساكن بشكل غير قانوني، ومع الوقت تعترف الحكومة بمستوطناتهم، وتقوم بـ"تقنين" أوضاعهم.
ثالثاً، تقسيم الضفة إلى جيوب معزولة، وشق طرق التفافية تحاصر القرى الفلسطينية، ما يجعل التواصل الجغرافي الفلسطيني شبه مستحيل، في الوقت ذاته يُسهّل عملية السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
رابعاً، سحب الأراضي تدريجياً من الفلسطينيين، عبر المصادرة الإدارية، أو عبر الطرد القسري للسكان، كما حدث منذ أيام، حين تم إجبار 30 عائلة فلسطينية بدويّة على مغادرة منطقة المعرجات شمال غرب مدينة أريحا، بعد أن عانوا بسبب الاعتداءات المتكررة من قبل مستوطنين متطرفين.
وهكذا، ووفقاً لهذا المخطط المتدرج الذي يجري تنفيذه على الأرض من دون إعلان رسمي، يتحوّل الفلسطيني تدريجياً من كونه مواطناً يُفترض أن يكون جزءاً من دولة مستقلة ذات سيادة، إلى مجرد مُقيم محاصر داخل جيوب معزولة ومجزّأة، تُشبه "الكانتونات" المحاطة بجدران واستيطان وجنود، محروم من حرية الحركة والسيطرة على أرضه ومصيره.
الضفة وغزة: فصلان في رواية الاحتلال
من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، هناك هدف إسرائيلي واحد، يتمثّل في السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وطرد أهلها منها. المشكلة التي تواجه حكومة الاحتلال، تتعلق بأن عدد اليهود اليوم في "إسرائيل" يعجز عن مجاراة الأحلام التوسعية، سواء لانخفاض معدّلات الإنجاب أو لارتفاع أعداد المغادرين للكيان، فيما يعرف بالهجرة العكسية، ويعود الفضل في ذلك، إلى العمليات التي تنفذها ساحات المقاومة المختلفة، من غزة وحتى طهران، على مدار الشهور والأعوام الفائتة.
في قطاع غزة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تخطى عدد الشهداء حاجز الـ 57 ألفاً، وهناك مخططات معلنة، برعاية مباشرة من الإدارة الأميركية، لتهجير الغزيّين خارج القطاع، وفي الضفة الغربية هناك ما لا يقل عن 40 ألف شخص قد تم تهجيرهم بالفعل منذ بدء الهجوم الإسرائيلي الأخير، بالإضافة إلى مئات الشهداء والجرحى سقطوا من جراء آلة القتل الإسرائيلية، سواء أكان القاتل جندياً بزيّ عسكري أو مستوطناً بزيّ مدني.
ورغم الإدانات المتكرّرة التي تصدر عن عدد من عواصم العالم، والمؤسسات الدولية الكبرى، بخصوص السياسات الإسرائيلية في فلسطين بشكل عام، فإن هذه الإدانات تبقى في حيّز التصريحات المجرّدة من الفاعلية، إذ لم تترجم هذه المواقف إلى إجراءات عقابية قادرة على كبح جماح السياسة الإسرائيلية أو فرض التراجع عن خطوات توسعية على الأرض.
ويُعزى هذا الجمود الدولي إلى الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي توفره الولايات المتحدة لحكومة الاحتلال في المحافل الدولية، فواشنطن، بوصفها الحليف الأبرز لـ"تل أبيب"، لا تكتفي بالدعم المالي والعسكري، بل تواصل استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار دولي من شأنه فرض محاسبة فعلية على الانتهاكات الإسرائيلية، وبفعل هذا الدعم، تكتسب الحكومة الإسرائيلية شعوراً بالحصانة السياسية، ما يفسّر مضيّها قدماً في تنفيذ مخططات الضمّ الزاحف، وتوسيع المستوطنات، وفرض الأمر الواقع على الأرض، دونما خشية من عواقب أو عقوبات.
ما بعد السيطرة.. نحو واقع استيطاني مكتمل
اليوم، تكون "إسرائيل" قد تجاوزت في الضفة الغربية حدود الاحتلال العسكري التقليدي، لتصل إلى طور متقدّم من مشروع إحلالي يسعى إلى محو الوجود الفلسطيني بالكامل، من دون الحاجة إلى إعلان رسمي، فالوقائع التي تُفرض على الأرض، من التوسّع الاستيطاني المتسارع، إلى التهجير القسري، وتقسيم الجغرافيا، وتآكل السيادة الفلسطينية.. تُشكّل في مجملها ملامح نظام استيطاني استعماري مكتمل الأركان.
ومع استمرار هذا الواقع، وغياب أي ردع حقيقي، تغدو مهمة العرب اليوم ليس فقط مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بل منع تحوّله إلى قدر دائم، ومن المؤكد أنه في مواجهة هذا المخطط، تصبح وحدة الساحات، وبناء مشروع مقاومة متكامل، والضغط على المجتمع الدولي من أجل الخروج عن صمته، خطوات لا بديل عنها.