التطبيع لم يعد كافياً: "إسرائيل" تسعى للهيمنة الإقليمية
في كل مرة عقدت دولة عربية اتفاقاً للسلام مع الاحتلال، كانت "إسرائيل" تربح مساحة سياسية أكبر في المنطقة، وظلّ الأمر تبعاً لتلك المعادلة على مدار عقود.
-
التطبيع كخطوة نحو الهيمنة الاستراتيجية.
قررت حكومة الاحتلال الإسرائيلي توسيع العملية العسكرية في قطاع غزة، واستدعاء آلاف من جنود الاحتياط، بالرغم من مرور أكثر من عام ونصف على انطلاق العملية البربرية التي حصدت أرواح أكثر من 52 ألف فلسطيني. توازياً، زادت معدّلات التدخلات السياسية والعسكرية في الشأن السوري على نحوٍ غير مسبوق، كذلك ارتفاع وتيرة الخطاب اليميني المُحرّض على استهداف إيران..
جميعها أمور تكشف عن تحوّلات جذرية في السياسة الإسرائيلية تجاه العالمين العربي والإسلامي، إذ لم تعد "تل أبيب" قانعة بنيل الاعتراف الإقليمي، بل باتت تريد الهيمنة على المنطقة، والتحكّم بمصيرها، وتنصيب نفسها شرطياً عليها، وحتى يتحقق ذلك، لا بدّ لها أن تكسر شوكة أي دولة تُهدد مشروعها.
التطبيع كخطوة نحو الهيمنة الاستراتيجية
في بدايات عملية السلام التي رعتها واشنطن بمراحلها كافة، ومارست ضغوطاً على الأنظمة العربية للقبول بها، بدا أن حكومات الاحتلال تسعى إلى الاعتراف والتعايش، مستهدفةً كسر العزلة العربية والدولية. لكن، بعد أن نجحت في إقامة علاقات مع مصر أول الأمر، ثم الأردن والسلطة الفلسطينية، وأخيراً الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان، بدأت ملامح طموح أوسع تظهر بوضوح.
لم تعد العلاقات تقتصر على الشؤون الدبلوماسية أو التعاون الاقتصادي، بل امتدت إلى التعاون العسكري والأمني، ما يعكس رغبة في التغلغل في البُنى التحتية للدول العربية، فالمؤكد أن "إسرائيل" لم تعد تلعب دور الدولة المحاصَرة اليوم، بل أصبحت تسعى بوضوح لتكون "مرجعية إقليمية" في مجالات الدفاع والاستخبارات والسياسة الخارجية.
تفكيك القوة وإضعاف الصفّ
لم يكن هدف "تل أبيب" من البداية، نسج علاقات مع الأنظمة العربية ونيل الاعتراف فقط، بل دوماً ما تم تسويق ملف التطبيع باعتباره ملفاً شاملاً يتضمن تكسير أجنحة أي دولة عربية تقبل به، بحيث لا تكون قادرة على التحليق في مجالها الجغرافي الحيوي، وتصبح معزولة غائبة عن الفعاليّة الإقليمية. بمعنى آخر، يحدث تبادل في الأدوار، إذ تصبح "إسرائيل" أكثر حرية في الإقليم، ويصبح مفهوم الانكماش والعزلة من نصيب النظام المُطبّع الذي يصبح تخطّيه حدوده محكوماً، وللأبد، بموافقة "إسرائيل" ومباركة الولايات المتحدة.
لنجاح المخطط الإسرائيلي، كان لزاماً أن يتم تمرير التطبيع في لحظة تفوّق لـ"جيش" الاحتلال، كي يرسخ في وعي الشعب العربي أن مواجهة "إسرائيل" متبوعة دوماً بالخسائر، وتجلب "الهزيمة" و"العار"، بالتالي من الأجدى تحاشيها. يتوازى مع ذلك التزام الأنظمة المُطبّعة ببرامج اقتصادية تُرغمها على التخلي عن التخطيط والملكيّة العامة والتنمية المستقلة، وتدفعها نحو إباحة أسواقها للمستثمر الغربي، بهذا تفقد الدولة بالتدريج استقلالها الاقتصادي وتغرق في الاستدانة ما ينتهي بها إلى خسارة استقلالها السياسي، أما في حال كانت الدولة غنيّة بفضل ثروات طبيعية، فتكون ملزمة بتوجيه عوائد تلك الثروة نحو النشاط الاستهلاكي والترفيهي، وفي أفضل الأحوال الخدمي، بينما يُحظر عليها تأسيس بنية صناعية متطورة أو الاستثمار في أي نشاط إنتاجي آخر.
اختلال موازين القوى في الإقليم
في كل مرة عقدت دولة عربية اتفاقاً للسلام مع الاحتلال، كانت "إسرائيل" تربح مساحة سياسية أكبر في المنطقة، وظلّ الأمر تبعاً لتلك المعادلة على مدار عقود.
ما عكّر صفو "النصر الإسرائيلي الاستراتيجي" كان دوماً محور المقاومة ونشاطه المناهض لمشروع الاحتلال في المنطقة، كان عقل المحور في طهران، وقلبه في جنوب لبنان، وسكن باقي الجسد في فلسطين.
مع الوقت انضمّت صنعاء ومعها جنوب العراق، حتى بات المحور مكتمل الأركان يحيط بـ"دولة" الاحتلال ويحاصرها ويستنزفها، وصولاً إلى عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
انخرط المحور بساحاته كافة في المعركة دعماً للقرار الذي اتخذته المقاومة الغزيّة ونفذته بإرادتها المستقلة، وفي لحظة ما كاد العالم أن يُعلن هزيمة "إسرائيل"، لكن الدعم الأميركي المستمر، وشراسة الخطاب الصهيوني اليميني، ووعي المجتمع الإسرائيلي بأن الإقرار بالهزيمة هو إعلان زوال الكيان، جميعها أسباب منعت سقوط "تل أبيب".
تدريجياً، أخذت الأمور مسارات أخرى، ذلك مع ارتفاع وتيرة المجازر في قطاع غزة، ثم استشهاد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو/أيار 2024، وما تلاه من اغتيال لعدد من قادة المقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى ارتقاء الشهيد الأسمى، السيد حسن نصر الله، في أيلول/سبتمبر 2024، ثم سقوط النظام السوري نهاية العام ذاته، ومغادرة الرئيس بشار الأسد إلى روسيا، وما أعقب ذلك من تدمير 90% من أسلحة الجيش السوري ومخزوناته بواسطة الطيران الحربي الإسرائيلي.
منحت تلك الأحداث جرعة ثقة كبيرة للمجتمع الإسرائيلي، ولولا ملف الأسرى في غزة، وبعض صور الفساد المالي، لنصب البعض تماثيل لبنيامين نتنياهو في ميادين "إسرائيل"، مع أخذ مسألة الديمقراطية وروح الليبرالية الغربية السارية في الشارع الإسرائيلي بالاعتبار.
في كل الأحوال، أنجزت "تل أبيب" تحولاً كبيراً في معادلات القوى في المنطقة، ورغم أن المقاومة من اليمن جنوباً حتى غزة شمالاً مستمرة بفدائية منقطعة النظير في عملياتها، فإن مجمل ما حصل دفع قادة الاحتلال إلى التفكير جدياً في الوثوب إلى الأمام.
تحركات محسوبة لإظهار التفوق
بدأت "إسرائيل"، مدفوعة بمنجزها العسكري، تستعرض عضلاتها إقليمياً، فباتت تطالب بفظاظة الدول التي لم تُوقّع معها اتفاقاً للسلام بتسريع الخطوات، وجرى الحديث عن تهجير الغزيّين علناً، ما اقتضى التحرش سياسياً بكل من القاهرة وعمّان، وأصبحت الأراضي السورية في الجنوب مستباحة أمام المدرعات الإسرائيلية، وعبر سلاح الجو الإسرائيلي صارت "تل أبيب" طامحة لفرض قرارها على دمشق ذاتها، وهندسة البنية الاجتماعية والسياسية للدولة، إن لزم الأمر.
يجري ذلك على الرغم من "الرسائل الإيجابية" التي تبعثها السلطات السورية إلى "إسرائيل"، عبر الحديث المتكرر عن ذمّ الدور الإيراني، والاستعداد للانخراط في "عملية السلام". ولعلّ ذلك يؤكد أن "إسرائيل" اليوم صارت فعلياً لا تكتفي بالتطبيع، بل تطمح للسيطرة على مفاصل المنطقة.
في قطاع غزة، لم يعد المشهد مجرّد مواجهة بين مقاومة واحتلال، بل غدا فصلاً دموياً من فصول مشروع أبعد مدى، وأشد خطورة.
فنتنياهو، زعيم الليكود، ومعه قادة أحزاب أقصى اليمين، لم تعد غايتهم محصورة في كسر شوكة المقاومة أو استعادة الأسرى، بل اتّسعت شهيتهم حتى باتوا يتطلّعون إلى اقتلاع غزة من جذورها، وإفراغها من أهلها، ومسحها من الجغرافيا والتاريخ معاً.
هي ليست حرباً فقط، بل رسالة مُرقّمة بالشظايا، مختومة بالدماء، موجّهة إلى كل عربي لا يزال يؤمن بالمقاومة، خلاصتها أن "التفكير مجدداً في مباغتة إسرائيل سيجلب أنهاراً من الدماء وأطناناً من الركام"، وما تلك المجازر إلا تعبيد لطريق يُطلِق عليه بعض المحللين العبريين "زمن إسرائيل"، زمنٌ تكون فيه "تل أبيب" قبلة الاستقرار، ومنارة الحداثة، ومحور التحالفات. زمنٌ يتحوّل فيه الخصم إلى تابع، والعربي إلى مستجدي ودّ من كان بالأمس خصماً وعدواً.
السعي إلى تهميش القضية الفلسطينية
كانت استعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية من أبرز مكاسب "عملية طوفان الأقصى"، لكن مع الوقت، تغيّر مِزاج الشارع العربي، والأسباب ترجع إلى طول أمد الحرب، وسقوط الآلاف من الشهداء والجرحى، والمشكلات الاقتصادية المُعتادة التي تواجه الأسر العربية؛ من دون أن يعني ذلك قبول الشارع العربي بالتطبيع، أو تخليه إجمالاً عن حلم تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر.
على أي حال، تدعم "إسرائيل" كل ما من شأنه خفض معدّل اهتمام الشارع العربي بالقضية الفلسطينية، إذ يُسهّل ذلك من قدرتها على التحاور مع الأنظمة العربية، وتطوير العلاقات، من دون أي اضطرار للحديث عن الحقوق الفلسطينية، ما يمنح "إسرائيل" شعوراً بأن في إمكانها تجاوز المسألة الفلسطينية من دون تكلفة حقيقية. وهذا بحدّ ذاته يُعدّ شكلاً من أشكال الهيمنة الرمزية والسياسية.
الهاوية التي تقترب
رغم أن التطبيع بحدّ ذاته كان يشكل إنجازاً سياسياً لـ"إسرائيل"، بيد أن الوقائع على الأرض أثبتت أن الهدف لم يكن السلام بقدر ما كان اختراق البيئة العربية والتأثير في مراكز القرار فيها، كمقدمة لما يمكن وصفه بـ"الهيمنة الإقليمية"، مستغلة التغيرات الجيوسياسية، والانقسامات العربية، وخصومة بعض الأنظمة مع محور المقاومة، ما مكّن "إسرائيل" من عرض خدماتها على أنها البديل الآمن، الذي تستطيع أي دولة أو "مكوّن اجتماعي" عقد تفاهمات أو تشاركات أمنية معها.
اليوم، لم تعد الخسائر حكراً على الفلسطينيين، بل امتد لهيبها ليحرق جميع أبناء المنطقة. لقد نجحت القوى الاستعمارية، التي رسمت ملامح "إسرائيل" منذ ولادتها واحتضنتها حتى الساعة، في تفكيك دولٍ عربية واحدة تلو الأخرى، حتى أضحت الساحة مهيّأة لحكومة الاحتلال كي تعبث بمقدّرات "الشرق الأوسط" بما يخدم مصالحها ومصالح رعاتها في الغرب.
وإذا لم تصحُ الأنظمة العربية من غفلتها، وتستدرك خطر هذا التمدد، فإن المنطقة برمتها قد تتحول إلى رقعة شطرنج، تحرّك "تل أبيب" أحجارها كما تشاء، وتُسقط من تشاء!.