التوتر في جنوب السودان ومصير السلام "الهشّ"

هل يمكن الإحاطة بأسباب التوتر الحاصل في جنوب السودان تجنّباً لعدم العودة إلى الحرب الأهلية؟ وماذا عن مستقبل المشهد السياسي في بلد تنهشه الصراعات ويقف على مسافة قريبة من استحقاق انتخابي؟

0:00
  •  هل يتدحرج التوتر في جنوب السودان ليُصبح صراعاً مسلحاً مزمناً؟
     هل يتدحرج التوتر في جنوب السودان ليُصبح صراعاً مسلحاً مزمناً؟

تكوّنت دولة جنوب السودان من رحم الصراع؛ خارج السياق العامّ الطبيعي والتقليدي الذي تُفسّره نظريات نشأة الدولة، أُعلن عن دولة جنوب السودان بموجب استفتاء حدث في 9 تموز/يوليو عام 2011، غُلب فيه خيار الانفصال بنسبة ساحقة 98%.

وما إن بدأت جنوب السودان السير في خطواتها الأولى حتى اندلعت فيها الحرب الأهلية في كانون الأول/ديسمبر 2013 بين الرئيس سلفا كير، ونائبه رياك مشار، بسبب اتهام الرئيس كير لنائبه مشار بالتخطيط للانقلاب عليه.

 فقرّر كير إقالة مشار؛ ونتيجة لذلك دخلت جنوب السودان في حرب أهلية وقودها عرقيّ بين قبيلتي الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس كير، وقبيلة النوير التي ينتمي إليها نائبه مشار، وخلّف الصراع بين الرجلين نحو 400 ألف قتيل، ونزوح ما يقرب من 3 ملايين مواطن، وأصبح 11 مليون مواطن في جنوب السودان يعيشون تحت وطأة المجاعة ونقص الغذاء.

في عام 2015 توصّل الرئيس كير ونائبه مشار إلى اتفاق سلام هشّ، انهار في عام 2016، ولأنه لم يكن ممكناً لأيّ من الرجلين حسم الصراع توصّلا في عام 2018 إلى اتفاق سلام ـــــ مشروط ـــــ أفضى لتشكيل حكومة وحدة وطنية في شباط/فبراير 2020.

 بقيت كثير من بنود اتفاق السلام بينهما من دون تطبيق لعدم وجود تفاهمات بينهما. وحُشر المشهد في جنوب السودان في حقل ألغام؛ واستدراكاً لتجنّب الانفجار مُدّد اتفاق الصلح بين كير ومشار لعامين إضافيين، شريطة أن يتمّ توحيد المجموعات العسكرية تحت إمرة الجيش، وتشكيل قيادة موحّدة للقوات المسلحة الجنوب سودانية. 

ونصّ الاتفاق على تخصيص 60 في المئة من المناصب القيادية في الجيش، والشرطة وقوات الأمن الوطني لمعسكر الرئيس سلفا كير، و40 في المئة لمعسكر مشار.

في 30 آذار/مارس 2023، عيّن رئيس جنوب السودان، سلفاكير، عضواً من حزبه الجنرال الموالي له شول طون بالوك وزيراً للدفاع في انتهاك لاتفاق السلام الذي بموجبه يتعيّن أن يختار حزب زعيم المعارضة، مشار، من يتولّى هذا المنصب. 

والمفارقة التي نفخت في دخان الصراع، أن الرئيس كير أقال وزيرة الدفاع أنجلينا تيني، وهي زوجة مشار الذي يشغل منصب النائب الأول للرئيس، الأمر الذي جدّد الخلافات بين الرجلين حتى كاد أن يودي بجنوب السودان نحو هاوية الصراع وتجدّد الحرب الأهلية على خلفيّة تقاسم السلطة والمحاصصة. وبدأت ملامح العودة للحرب الأهلية تتشكّل في المشهد منذ أواخر شباط/فبراير 2025.

حدث التطوّر الأبرز في انتقال الخلافات إلى اشتباكات قد تصبح صراعاً مزمناً بين الرئيس ونائبه في 4 آذار/مارس 2025، عندما تمّ اعتقال الجنرال غابريال دوب لام، نائب رئيس هيئة الأركان في جيش جنوب السودان.

 وهو من مجموعة نائب الرئيس رياك مشار المعروفة باسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة"، والتي أصدرت بياناً اعتبرت فيه هذا الاعتقال خرقاً لـ"اتفاقية السلام". وتدحرج التوتر أكثر عقب اعتقال وزير البترول بوث كانج تشول والكثير من أعضاء "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة".

التصعيد بالذهاب إلى الاعتقالات جاء عقب يوم واحد من لقاء جمع كلّاً من الرئيس كير ونائبه مشار في 3 آذار/مارس 2025، وكانت بوادر التهدئة ممكنة لو قُدّمت المصلحة العامّة لجنوب السودان على الحسابات الشخصية والمحاصصة؛ ويبدو أنّ جنوب السودان ليست أوفر حظاً من نظيرتها السودان التي تحيا هي الأخرى على وقع الصراع الدائر بين البرهان وحميدتي.

تقدير التوتر الذي يضع مصير السلام الهشّ في جنوب السودان على المحكّ أن التصعيد وصل إلى فرض حصار أمني على منزل نائب الرئيس مشار، حتى بات مستقبل حكومة الوحدة الوطنية في جنوب السودان واتفاق السلام الموقّع بين كير ومشار في 2018 على المحكّ، بل بات مستقبل المشهد في جنوب السودان معلّقاً على ما يقرّره الرجلان.

والسؤال هل يمكن الإحاطة بأسباب التوتر الحاصل في جنوب السودان تجنّباً لعدم العودة إلى الحرب الأهلية؟ وماذا عن مستقبل المشهد السياسي في بلد تنهشه الصراعات والانقسامات ويقف على مسافة قريبة من استحقاق انتخابي نهاية العام الجاري، وقد حُرمت جنوب السودان من الانتخابات منذ قيامها عام 2011. هل التوتر الحاصل الآن الهدف منه تعطيل الذهاب للانتخابات؟.

 هل يتدحرج التوتر في جنوب السودان ليُصبح صراعاً مسلحاً مزمناً، خاصة وأنّ مجرّد حدوث خلافات واعتقالات أفضى لاستخدام مفرط في الأسلحة بأنواعها وبدا الاحتكام للقوة العسكرية أسهل الخيارات!. هل تصبح جنوب السودان عبئاً على الاستقرار المنشود في القارة الأفريقية واستنزافاً لجهود التنمية.

جميع التساؤلات مشروعة لكنها ليست حتمية، إذ إنه يمكن تجاوز الخلافات لأنّ الجميع في جنوب السودان يُدرك ويعلم وقد عاش وعايش ماذا يعني انهيار اتفاق السلام والعودة إلى الحرب الأهلية. 

إنّ الجغرافيا السياسية والتاريخ المشترك في جنوب السودان يقتضيان سرعة أن تتداعى كلّ الأطراف المحلية والإقليمية والدولية من أجل منع تدحرج الصراع. لأنّ التأخّر في ذلك يعني الذهاب الإجباري لصراع حتمي في دولة محكومة بمكوّنات عرقية، وتمضي على وقع أزمة إنسانية تنتشر فيها مجموعات عسكرية، ويغيب عنها جيش وطني موحّد، تعاني مؤسساتها من الضعف، تتربّص بها قوى إقليمية تهدف لاستنزافها واستغلال مواردها من جهة؛ وعدم حدوث استقرار في القارة الأفريقية من جهة أخرى.

إنّ الذهاب صوب الصراع والصدام في جنوب السودان، مع استمرار الحرب الدائرة في السودان قد يفضيان لتحقّق نظرية الدومينو، وبالتالي قد تتدحرج الصراعات في دول أفريقية أخرى الأمر الذي يعني استنزاف مقدّرات وجهود التنمية والاستقرار في القارة الأفريقية بكاملها.

 وإنّ جنوب السودان تضع الجميع أمام اختبار حقيقي لا يتعلّق بمصير السلام الهشّ بين الفرقاء ولكن مصير منطقة القرن الأفريقي. وقد رأينا أنّ الاشتباكات التي حدثت قد طالت نيرانها إحدى مروحيات بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان وقتلت أحد أفراد طاقمها. بالإضافة إلى مقتل 27 شخصاً في الحادثة.

وبالتالي فإما أن تنحو البلاد صوب السلام والاستقرار والتنمية؛ وإما تبقى محكومة بالصراع والعنف. وإن دعوة الرئيس سلفا كير في 7 آذار/مارس 2025؛ بأن بلاده "لن تعود إلى الحرب.. لقد قلت دائماً إن بلادنا لن تنزلق إلى الحرب مرة أخرى وسنبقى ثابتين على مسار السلام"؛ دعوة يُمكن البناء عليها والتقاطها قبل فوات الأوان.