الرهان يبقى على مقاومة التطبيع الشعبي

مركز الثقل في المرحلة المقبلة قد ينتقل من مستوى الصراع العسكري التقليدي إلى مستوى مقاومة التطبيع الشعبي، بوصفه المساحة التي تراهن عليها الولايات المتحدة و "إسرائيل" لإعادة تشكيل الوعي العربي تجاه الصراع.

0:00
  • الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف العربي تجاه فلسطين مسؤولية تقع على المجتمعات العربية.
    الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف العربي تجاه فلسطين مسؤولية تقع على المجتمعات العربية.

تبدو المنطقة العربية، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة خلال الأعوام الأخيرة، أمام مرحلة انتقالية معقدة يصعب الإمساك بحدودها بدقة.

فالتبدلات في موازين القوة، وتحولات أولويات القوى الكبرى، وتراجع قدرات الدولة العربية التقليدية، أدّت جميعها إلى نشوء حالة عامة من القلق السياسي، تتقاطع فيها الأسئلة حول مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، وموقع إيران في معادلة الردع الإقليمي، ومصير الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، مع مشاعر متزايدة لدى الرأي العام العربي بأن البيئة الاستراتيجية تتحرك على نحو لا يخدم مصالحه.

هذه الأسئلة ليست جديدة من حيث مضمونها، لكنها تعود اليوم بثقل أكبر نتيجة شعور واسع بأن المنطقة قد تكون على أعتاب صيغة شبه دائمة من النفوذ الأمريكي – الإسرائيلي، سواء عبر إعادة هندسة التحالفات الإقليمية أو من خلال إضعاف الفاعلين المناهضين لهذا النفوذ.

وبينما تواصل الولايات المتحدة والإدارة الإسرائيلية الترويج لخطاب يصور الشرق الأوسط وكأنه متجه نحو "ازدهار" قائم على اتفاقيات التطبيع والتكامل الاقتصادي والأمني، يظهر في المقابل إدراك شعبي أوسع بأن هذا الخطاب لا يعكس الواقع الميداني والسياسي، ولا يتطابق مع ما يحدث على الأرض من عمليات عسكرية، وضم صامت، وإعادة احتلال متدرج لبعض المناطق العربية.

فالوقائع التي شهدتها المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، من إعادة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، تثبيت وجود عسكري في الجنوب السوري، السيطرة على نقاط حاكمة في الجنوب اللبناني، وصولاً إلى الهجمات الواسعة على إيران وقطر، ليست استثناءً، بل امتداد لمسار طويل يقوم على فرض أمر واقع يتجاوز الاتفاقيات الدولية. ويستدعي هذا المشهد المقارنة التاريخية، ليس بهدف الاستغراق في الماضي، بل للاستفادة من أنماط تشكلت في لحظات الانكسار العربي الكبرى، مثل حرب حزيران عام 1967 وما تلاها من تحولات سياسية وأمنية عميقة.

لقد خلق عدوان 1967 واقعاً عربياً ملبداً بالإحباط واليأس، بعدما امتدت السيطرة الإسرائيلية إلى قطاع غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان، وبعدما جرى تدمير جزء كبير من القدرات العسكرية المصرية والسورية. ومع ذلك، فإن تلك المرحلة، بكل صعوباتها، كانت مدخلاً إلى نشوء فاعلين جدد مثل منظمة التحرير الفلسطينية، كما شكلت بيئة سمحت بحدوث تغيير في توزيع القوة انتهى بحرب أكتوبر 1973. وتكرر النمط نفسه بعد خروج مصر من دائرة الصراع المباشر إثر اتفاقيات كامب ديفيد، حيث برزت قوى مقاومة جديدة وظهرت أنماط مختلفة للتنافس الإقليمي.

الاستدعاء التاريخي هنا لا يهدف إلى مقارنة آلية بين زمنين، فالسياق الدولي والعربي اليوم مختلف جذرياً، لكنّه يساعد في فهم البنية العميقة لحركة المنطقة، ففي كل مرة يبدو فيها أن ميزان القوة يميل بصورة حاسمة ضد العرب، تظهر تحولات لاحقة تعيد إنتاج معادلات جديدة. لكن هذه التحولات ليست تلقائية، ولا تتحقق بآلية ذاتية، بل تتطلب استعداداً سياسياً ومجتمعياً لمواجهتها.

ورغم أن الخطاب التحليلي المرافق للمرحلة الراهنة يتجنب غالباً استخدام لغة التشاؤم، فإن توصيف البيئة السياسية العربية يتطلب قدراً من المكاشفة. فالمشهد العربي يبدو اليوم أقل قدرة على الفعل مما كان عليه في مراحل سابقة. فالدول المركزية التي شكلت تاريخياً أعمدة النظام العربي تعاني إما تراجعاً اقتصادياً هيكلياً، أو انقسامات داخلية، أو ضغوطاً سياسية وأمنية تجعل من قدرتها على بلورة موقف موحد تجاه القضية الفلسطينية أو مواجهة السياسات الإسرائيلية أمراً محدوداً. وفي المقابل، تستثمر الولايات المتحدة وإسرائيل هذا الضعف لتعزيز مسار يهدف إلى إنهاء فاعلية حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وإبعاد إيران عن دائرة التأثير في الملف الفلسطيني.

لكن نجاح هذه الاستراتيجية ليس مضموناً بالكامل، لأن المشهد العربي -رغم هشاشته -لا يزال يتضمن عناصر مقاومة صلبة يصعب تجاوزها، أهمها أن الاحتلال، من حيث الجوهر، يبقى احتلالاً، وأن الزمن لم يتمكن خلال العقود الماضية من إحداث تحول جذري في الموقف الشعبي العربي من إسرائيل. فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على توقيع كامب ديفيد، وثلاثة عقود على وادي عربة، لم ينجح أي منهما في خلق قبول شعبي واسع بالتطبيع أو في تحويل إسرائيل إلى دولة عادية في الوعي العربي. وهذا الواقع ليس تفصيلاً هامشياً، بل يمثل أحد العوامل التي تعيق تكريس "السلام الإقليمي" بالشكل الذي ترغب به واشنطن وتل أبيب.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن مركز الثقل في المرحلة المقبلة قد ينتقل من مستوى الصراع العسكري التقليدي إلى مستوى مقاومة التطبيع الشعبي، بوصفه المساحة التي تراهن عليها الولايات المتحدة و "إسرائيل" لإعادة تشكيل الوعي العربي تجاه الصراع.

فالتحول من "رفض الاحتلال" إلى "قبول الاعتراف" لا يمر عبر المعاهدات الرسمية فقط، بل عبر تفكيك البنية الذهنية التي تعتبر فلسطين قضية مركزية، وعبر إضعاف الروابط الثقافية والمجتمعية التي حافظت لعقود على صورة مشتركة للعدو.

غير أن التعويل على الأنظمة العربية في هذا المجال يبدو محدوداً، لأن كثيراً منها مرتبط باتفاقيات سياسية وأمنية واقتصادية تفرض عليها التزامات واضحة تمنعها من التصادم مع مسار التطبيع. كما أن دولاً أخرى تخضع لضغوط دولية تمنعها من اتخاذ مواقف تناقض المسار الأمريكي، فيما تعاني دول ثالثة من أزمات بنيوية حادة تجعلها غارقة في صراعات داخلية تمنعها من الانخراط بفاعلية في أي مواجهة سياسية أوسع. ويكفي التذكير بأن معظم الحكومات العربية منعت خلال الأشهر الماضية مظاهرات تضامن واسعة مع غزة، رغم حجم الدمار الهائل الذي تعرّض له القطاع.

من هنا، تصبح مسؤولية الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف العربي التاريخي تجاه فلسطين مسؤولية تقع على المجتمعات العربية نفسها، بأحزابها ونقاباتها ومنظماتها وشرائحها الثقافية والمهنية. فهذه القوى، رغم تضييق المجال العام في كثير من الدول، لا تزال تمتلك أدوات تأثير غير مباشرة، سواء عبر إنتاج خطاب ثقافي وإعلامي رافض للتطبيع، أو من خلال دعم حملات المقاطعة الاقتصادية، أو عبر إبقاء الذاكرة الجمعية حية تجاه الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب العربية في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن وغيرها.

هذا الدور ليس بديلاً عن العمل السياسي الرسمي، لكنه يشكل عنصر توازن مهم يمنع انهياراً كاملاً في الموقف العربي العام. فالتطبيع الشعبي، بخلاف التطبيع الرسمي، ليس التزاماً قانونياً بل حالة قابلة للمراجعة، وتتوقف على تفاعل الناس مع واقعهم السياسي وعلى إدراكهم للحدود الفعلية للصراع.