المسار العدواني الإسرائيلي في الإقليم... بحث في آليات ردع مستقل عن القوة الأميركية
السلوك الإسرائيلي الذي يظهر تفلتاً في قطاع غزة وفي لبنان وسوريا لا يعبر عن حقيقة موقع حاسم للكيان في المنطقة.
-
الكيان الإسرائيلي يحاول إعادة رسم محددات الردع الذي تضعضع منذ أكتوبر 2023.
لا يمكن قراءة المسار العدواني في غزة ولبنان أو الادعاء بتحقيق إنجاز فاعل في إيران ضمن تحليل منفصل عن الإطار الذي يحاول الكيان الإسرائيلي من خلاله إعادة رسم محددات الردع الذي تضعضع منذ أكتوبر 2023.
فرغم كل الحروب التي خاضها ويخوضها "الجيش" الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ تحت عناوين مختلفة، تتمحور حول مواجهة تهديدات وجودية كانت ستؤدي وفق روايته تحديداً إلى انهيار الكيان، تبدأ من غزة ولا تنتهي في إيران، لم ينجح الكيان حتى هذه اللحظة في معالجة الأثر النفسي الذي أعاد تشكيل المفهوم الجمعي الصهيوني، الشعبي والسياسي، بعد "طوفان الأقصى" لناحية قدرات "الدولة" على الحماية واليقين بقدرة الصمود في محيط معادٍ من دون أن ننسى التصدعات التي أصابت البنية الداخلية للمجتمع الإسرائيلي.
تاريخياً، انشغل الكيان الإسرائيلي في محاولة إيجاد الإجابات اللازمة لأسئلة تقليدية شغلت تفكير المجتمع الصهيوني. ونتيجة عدم القدرة على تخطي عقدة ضيق الحيز الجغرافي والهاجس الوجودي المرتبط بواقع الجوار وعقدة الديمغرافيا، وجد المؤسسون أن القدرات العسكرية المتفوقة التي ضمنتها الدول الغربية قد تكون فاعلة في تبديد هذه الهواجس من خلال العمل السريع على تحييد قدرات العدو المؤثرة، ومن خلال القدرة على تحييد الجبهة الداخلية الإسرائيلية وحمايتها من أي خطر قد ينجم عن مواجهة عسكرية.
وإذا ربطنا ذلك بالقرار الإسرائيلي الفاعل والسريع عند الاستجابة لما يعدّه من الأخطار التكتيكية والإستراتيجية، فإن تبنّيه مفهوم الحرب الاستباقية المتحرر من أي تبعات والمتجسد في المفهوم الأمني الإسرائيلي كأحد الأركان الأساسية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية سيكون كافياً لرسم إطار لإستراتيجية تستطيع بالتوازي مع المزايا الاقتصادية والمالية حماية الكيان وتأمين سردية جاذبة تساعد في ضمان تدفق المستوطنين على نحو دائم.
منذ زمن بن غوريون، تم تبني عقيدة أمنية تقوم على الإنذار المبكر والردع والحفاظ على الداخل آمناً، بمعنى العمل على حصر المواجهة في أراضي العدو.
وعبر كل المسار التاريخي الإسرائيلي، لم تقدم المؤسسة الأمنية أي تحديث جذري لهذه العقيدة إذ أكدها "الجيش" الإسرائيلي في عقيدته الأمنية لعام 2015 مضيفاً إلى مرتكزاتها، أي الحرب الاستباقية السريعة والفاعلة وتحييد قدرات العدو المؤثرة والعمل على حصر المعركة في أراضي العدو، مرتكزاً رابعاً يمكن تعريفه بالتعاون الإقليمي الأمني والاستخباري.
وإذا كان من اللازم تقييم هذه العقيدة، فإن المرحلة السابقة لـ"طوفان الأقصى" ستقدم أدلة كثيرة عل نجاحها، وتمكن الكيان من قراءة ظروف المنطقة بطريقة موضوعية.
فالمرتكزات التي تبنّاها منذ بن غوريون وأكّدها عام 2015 كانت تناسب تماماً ظروف الصراع ومتطلبات الكيان الإقليمية في مواجهة الدول العربية. فالاعتماد على التفوق العسكري والقدرة على تسييل هذه القوة في علاقات إقليمية أنتجت اتفاقات أمنية علنية وسرية قد ساهمت في تحييد خطر اندلاع مواجهة إقليمية بينها وبين الدول العربية كتلك التي حدثت عام 1973.
غير أن هذا الواقع قد تغير بعد "طوفان الأقصى"، لناحية سقوط المرتكزات التي حكمت عقيدة الكيان الأمنية. فالإنذار المبكر لم يؤشر إلى أي تغيير على جبهة غزة لحظة "طوفان الأقصى" كما أن التفوق العسكري والدعم الغربي لم يؤديا إلى ردع جبهات الإسناد أو على الأقل تحييد الجبهة الداخلية عن خطر الصواريخ والمواجهة المفتوحة التي استمرت لأكثر من 15 شهراً. وعليه، لم يكن الاعتداء على لبنان في تشرين الأول الماضي/أكتوبر أو على اليمن وثم على إيران إلا في إطار محاولة إعادة صوغ مرتكزات ردع جديدة مختلفة عن تلك التي أشرنا إليها.
فمن خلال قراءة أهداف الاعتداءات التي طالت لبنان واليمن وإيران وتلك التي ما زالت تطال قطاع غزة، يمكن القول إن الهدف الرئيسي لم يعد الردع وإنما محاولة القضاء على الأعداء بصورة نهائية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لجأ الكيان الإسرائيلي إلى وسائل لم تكن ذات قيمة في مفهومه الأمني، إذ إن حروبه الاستباقية لم تعد سريعة وفاعلة وباتت تحتاج إلى جهد مكمل لتحقيق الأهداف.
فمن خلال قراءة إستراتيجية العدوان على لبنان أو غزة، يظهر واضحاً أن الضربات التي وجهها لم تظهر فاعلية في محاولة دفع العدو إلى الاستسلام وإنما باتت تشكل فقط مدخلاً لتحضير أرضية تؤدي بوسائل أخرى إلى تحقيق الهدف المنشود. فالضغوط الداخلية ومحاولة دفع الأطراف السياسية في لبنان إلى الانقلاب على حزب الله أو دعم جماعات عميلة في غزة لاستكمال مهمة تهشيم حكم حماس باتت في صلب الإستراتيجية الإسرائيلية لمواجهة التهديد. وإذا قارنا هذا التوجه بأساليب الردع السابقة وإستراتيجيات الكيان السابقة، فإن ذلك سيؤشر إلى تراجع ملحوظ في القدرات الذاتية التي أظهرت عجز أساليب القوة الخشنة الإسرائيلية على الحسم والسرعة في تحقيق أهداف الحرب.
وإذا كان من الممكن تقبُل الادعاء الإسرائيلي بنجاح هذه الإستراتيجية في مواجهة قوى المقاومة لناحية إضعاف موقعها السياسي وإشغالها بمواجهات جانبية قد تؤدي وفق الرأي الإسرائيلي إلى الحد من قدراتها بشكل فاعل، فإن هذه الإستراتيجية قد واجهت ضد الجمهورية الإسلامية فشلاً وخللاً عميقاً لناحية الموازنة بين القدرات والأهداف.
فالحرب الاستباقية والقدرة السريعة على الحسم والتحكم بالمدى الزمني وواقعية الأهداف التي أعلنها بنيامين نتنياهو قد تحولت في مواجهة إيران إلى حرب استنزاف يتحملها المجتمع الإسرائيلي بشكل مباشر وتشكل جغرافيا الكيان ساحة أساسية لها من دون أن ننسى أنها أظهرت فشلاً كبيراً في تقدير واقع المجتمع والدولة الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، أدت هذه المواجهة إلى إظهار محدودية الكيان في إدارة صراعات إقليمية كبرى بما ساهم في إسقاط فرضية قيام شرق أوسط أميركي يضمن تفوقاً وريادةً إسرائيلية. فوقائع المعارك الأخيرة قد أسقطت هيبة الكيان وأسقطت أيضاً رهان الولايات المتحدة بإمكان تلزيم إدارة الشرق الأوسط وإدارة المنظومة الأمنية فيه للكيان الإسرائيلي وباتت ملزمة بالحفاظ على وجودها الفاعل في الإقليم.
وعليه، يمكن التقدير أن السلوك الإسرائيلي الذي يظهر تفلتاً في قطاع غزة وفي لبنان وسوريا لا يعبر عن حقيقة موقع حاسم للكيان في المنطقة.
فادعاء الاستناد إلى أهداف إسرائيلية تحققت في الفترة الماضية يشوبه خلل عميق. فسقوط معادلات الردع التي أرستها المقاومة في لبنان لا يعني سقوط المقاومة، وبات واضحاً أن مسار نزع سلاحها في لبنان يشكل مهمةً مستحيلة. كما أن الواقع في غزة والتسليم الإسرائيلي بمسار الاتفاق مع حماس من أجل تحرير الأسرى لا يدلل على نجاح إسرائيلي حاسم.
أما بالنسبة إلى سوريا، فإن واقع النظام الباحث عن علاقة مع الكيان والملتزم بخيار اتفاقات إبراهام حين تتبلور شروط صفقة يعدها مقبولة لا يدلل على إنجاز إسرائيلي بحت. وإذا قاربنا ذلك مع الواقع الذي أفرزته الحرب على إيران حيث استجدى نتنياهو تدخلاً أميركياً، وأصرّت إيران على أن تكون الطلقة الأخيرة لها، مع الإشارة إلى حجم الدمار الذي طال الكيان وظهور عدم قدرته على امتصاص صدمات الهجوم الإيراني، فإن هذا الواقع يؤشر إلى مسار إسرائيلي يستهدف الإيحاء، إعلامياً على الأقل، بالقدرة الفاعلة على تكريس معادلات ردع فاعلة بشكل مستقل عن القوة الأميركية.