الهند بين الضغط الأميركي ومحاولة تعزيز نموّها
الهند اليوم أمام اختبار صعب للموازنة في علاقاتها بين الولايات المتحدة الأميركية، التي ما زالت تعتمد عليها تجارياً ودفاعياً، وروسيا التي تربطها بها علاقات تجارية وثيقة.
-
الهند أمام اختبار صعب للموازنة في علاقاتها بين الولايات المتحدة الأميركية.
عندما زار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الهند في عام 2020، وصف رئيس وزرائها ناريندرا مودي بأنه صديقه المخلص. وعاد ترامب ووصفه بالصديق العظيم خلال الاجتماع الذي عُقد بينهما في البيت الأبيض خلال شهر شباط/ فبراير الماضي. أما الزعيم الهندي فقد أشار مرات عديدة بأن هناك صداقة حميمة تربطه بالرئيس ترامب.
وبسبب هذه العلاقة الطيبة بين الزعيمين، تأملت نيودلهي خيراً بعودة ترامب إلى البيت الأبيض؛ إذ اعتقدت أنها يمكن أن تنجو من التعريفات التي هدد بفرضها على الدول الصديقة والعدوة. ولكن، لم تفلح الصداقة في إنقاذ الهند من براثن الرسوم الجمركية الأميركية، بل على العكس، شنّ ترامب هجوماً حاداً على نيودلهي، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.
فقد قام ترامب بفرض رسوم جمركية على السلع الهندية بلغت 25%، ولاحقاً فرض رسوماً جمركية إضافية بنسبة 25% عليها بسبب وارداتها من النفط الروسي ليصل إجمالي الرسوم إلى 50% . وفاجأت أفعال ترامب الهند التي تعهد رئيس وزرائها بحماية مصالح المزارعين بعد مضاعفة الرسوم الجمركية على السلع الهندية.
لقد كانت نيودلهي من أولى الدول التي عقدت مباحثات تجارية مع الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق تجاري. وزار مودي البيت الأبيض واجتمع بالرئيس ترامب وكانت الأجواء إيجابية حينها، إذ تم الاتفاق على جملة من الأمور من بينها مضاعفة حجم التجارة الثنائية إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 500 مليار دولار أميركي عام 2030، وسدّ فجوة تجارة السلع البالغة 47 مليار دولار لصالح الهند، حيث تعهدت الأخيرة بشراء ما يصل إلى 25 مليار دولار من الطاقة الأميركية وتعزيز وارداتها الدفاعية.
وبعد جولات عدة من المفاوضات التجارية، كان المسؤولون الهنديون على ثقة في التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، وأشاروا لوسائل الإعلام الهندية إلى إمكانية تحديد سقف للرسوم الجمركية بنسبة 15% إسوة بكوريا الجنوبية واليابان، حتى إن ترامب ردّد مراراً بقرب التوصل إلى اتفاق، وكانت الهند تتوقع أن يقوم بنفسه بالإعلان عن هذا الاتفاق، ولكن ذلك لم يحصل.
عرضت الهند في إطار المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة إلغاء الرسوم الجمركية على السلع الصناعية الأميركية، وزيادة مشترياتها من الدفاع والطاقة الأميركية، كما عرضت خفض الضرائب على السيارات، رغم الضغوطات التي تعرضت لها من جماعات الضغط المحلية في قطاع السيارات لعدم القيام بذلك. ولكن نيودلهي شددت موقفها في ما يتعلق بالزراعة ومنتجات الألبان، وهما مجالان شديدا الحساسية بالنسبة إلى حكومة مودي؛ إذ يشكّل المزارعون أكثر من نصف سكان البلاد، وبالتالي استيراد المواد الزراعية الأميركية سيضر بالمزارعين، ناهيك بأن العوامل الثقافية تلعب دوراً؛ إذ إن منتجات الألبان الأميركية تحتوي على دهون حيوانية، بينما الهند تعتمد كثيراً على النظام الغذائي النباتي.
ومن ناحية أخرى، لعبت العوامل الجيوسياسية دوراً في تشديد ترامب لهجته تجاه الهند وفرض الرسوم الجمركية عليها. وأحد هذه العوامل هو اختلاف التصورات حول كيفية انتهاء الاشتباك الأخير بين الهند وباكستان. فقد صرّح ترامب مراراً وتكراراً بأنه توسط في وقف إطلاق النار، بينما نفت الهند ذلك وأشارت إلى أن ترامب لم يكن له دور في تحقيق هدنة بين البلدين، ما أثار غضب ترامب. أما باكستان فقد رشحته لجائزة نوبل. ومما أثار غضب الهند هو التقارب بين واشنطن وإسلام آباد، واستفزاز ترامب للهند عبر هذا التقارب، وتصريحه بأنه لاحقاً يمكن للهند أن تستورد النفط من باكستان بعد الإعلان عن اتفاق بين البلدين لقيام الولايات المتحدة باستكشاف احتياطات باكستان من المعادن والنفط، فضلاً عن توقيع اتفاق تجاري بين البلدين.
يحاول ترامب الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف حربه على أوكرانيا عبر إجبار الدول على التوقف عن استيراد النفط الروسي. ونظراً لأن الصين، التي هي أكبر مستورد للنفط الروسي، تخوض حالياً مفاوضات تجارية مع الولايات المتحدة والحديث عن قمة مرتقبة بين ترامب وشي جين بينغ، يحاول الرئيس الأميركي تجنب إغضاب الصين عبر فرض رسوم جمركية عليها بسبب النفط الروسي، علماً أنه قد صرّح مؤخراً بأنه من الممكن أن يفرض عليها رسوماً جمركية بسبب استيرادها النفط الروسي، ولكن هذه الخطوة قد توتر العلاقات بين البلدين، لذلك فضّل ترامب الضغط على الهند بدلاً من الصين، وفرض عليها رسوماً جمركية بسبب النفط الروسي في محاولة منه أيضاً لإبعاد الهند عن روسيا التي تربطها بها علاقات دفاعية وتجارية كبيرة.
وفي تحدٍ للضغوطات الأميركية، صرّحت الهند بأنها لن تتوقف عن استيراد النفط الروسي، كما زار مستشار الأمن القومي الهندي روسيا لإجراء محادثات حول التعاون في مجال الصناعات الدفاعية التي قد تشمل مناقشات إمكانية شراء مزيد من أنظمة صواريخ S-400 ، وإنشاء بنية تحتية للصناعة في الهند، واستكشاف خيارات شراء طائرات SU-57 المقاتلة الروسية، وأتت هذه الزيارة بعد إعلان نيودلهي أنها غير مهتمة بشراء طائرات F35 التي صرّح ترامب خلال لقائه بالزعيم مودي إمكانية بيعها للهند.
في ظل انعدام الثقة بالولايات المتحدة الأميركية والضغوط التي تمارسها على الهند، أخذت نيودلهي تعمل على زيادة تعاونها التجاري مع العديد من دول العالم من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية مثل الاتفاقية التي وقعتها مع بريطانيا، أو الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي الذي ما زال قيد المناقشة. وتسعى الهند أيضاً إلى استقرار علاقاتها مع الصين، إذ يعتزم الرئيس مودي حضور قمة شنغهاي للتعاون في نهاية الشهر الحالي في بكين، وستكون هذه أول زيارة له منذ سبع سنوات وبعد المواجهة بين البلدين في عام 2020 في وادي جالوان.
مما لا شك فيه أن رسوم ترامب الجمركية ستلحق ضرراً بالاقتصاد الهندي، وحكومة الرئيس مودي اليوم في مأزق فهي لا تريد أن تظهر بموقف الضعيف، ولا أن يظهر مودي الذي يتمتع بمكانة عالمية بموقف الضعيف أيضاً، خاصة في ظل الانتقادات التي توجه إليه من المعارضة الداخلية بسبب الرسوم الجمركية.
فإذا تجاهلت الهند تهديدات ترامب واستمرت في شراء النفط الروسي، إذ ان الرسوم الجمركية 25% ستطبق اعتباراً من 27 آب/ أغسطس الحالي، فإن الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد الهندي سيكون كبيراً. فوفقاً لـ Global Trade Research initiative ، وهي مجموعة بحثية هندية، فإن الرسوم الجمركية المرتفعة قد تخفض صادرات الهند الى الولايات المتحدة، والتي تزيد قيمتها على 86 مليار دولار، إلى النصف. كما أن توقف الهند عن شراء النفط الروسي سيرفع من أسعار السلع على المستهلكين والتصنيع المحلي، ويكون ذلك ضاراً بسياسة مودي.
وفي إطار آخر، فإن فرض الرسوم الجمركية على الهند سيبعد الشركات عن فتح مكاتب لها في الهند، خاصة في الوقت الحالي بعد سعي العديد منها إلى نقل فروعها من الصين إلى الهند.
فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة "آبل" في شهر نيسان/ إبريل الماضي أن جميع أجهزة "أيفون" المخصصة للبيع في الولايات المتحدة سيتم تجميعها في الهند. وإذا كانت الإلكترونيات لغاية اليوم معفاة من الرسوم الجمركية، فإن دولة تُفرض عليها رسوم جمركية بنسبة 50% لا تجذب الشركات. وما يثير القلق أيضاً هو نية ترامب فرض رسوم جمركية على الأدوية وأشباه الموصلات، وهذا يمكن أن يشكل ضربة مؤلمة للهند.
قاومت الهند الضغوطات الأميركية لفتح أسواقها بشكل قد يضر بصناعاتها المحلية وصغار مزارعيها، ومع ذلك، فإن نيودلهي لا تسعى إلى المواجهة مع واشنطن، بل إلى التفاوض وما زالت تحافظ على هدوئها. المحادثات التجارية بين البلدين مستمرة حيث سيعقد لقاء بينهما أواخر الشهر الحالي. كما أن الرسوم الجمركية بسبب النفط الروسي لم تدخل بعد حيز التنفيذ، وهذا يعني مزيداً من الوقت للتشاور بين نيودلهي وواشنطن أو يمكن التوصل إلى اتفاق بين ترامب وبوتين، عندها يلغي ترامب الرسوم الجمركية على الهند بسبب روسيا.
من المحتمل أن تتوصل الهند وأميركا إلى صيغة ترضيهما بعد تقديم تنازلات من كلا الجانبين. الهند مهمة جداً إلى الولايات المتحدة من أجل منافسة الصين، كما أن التقارب الهندي- الروسي- الصيني يثير قلق واشنطن التي ترى فيه إنهاء لهيمنتها العالمية، وبالتالي ليس من مصلحتها معاداة نيودلهي. والهند، من جهتها، لن تقف في مواجهة الولايات المتحدة بينما الدول الأخرى توقع اتفاقيات معها، لا سيما الصين.
وإذا حصل الاتفاق فذلك لن يعيد العلاقات الهندية- الأميركية إلى سابق عهدها؛ بسبب فقدان نيودلهي الثقة بالولايات المتحدة، إذ إن هناك خيبة أمل كبيرة في الهند من ترامب.
الهند اليوم أمام اختبار صعب للموازنة في علاقاتها بين الولايات المتحدة الأميركية، التي ما زالت تعتمد عليها تجارياً ودفاعياً، وروسيا التي تربطها بها علاقات تجارية وثيقة، وتخطي الضغوطات الداخلية بسبب رسوم ترامب الجمركية.