بين الغليان والاغتيال.. مسافة مجهولة في "تل أبيب"
تتساوى احتمالات وقوع الاغتيال السياسي في الكيان الإسرائيلي، مع قدرة الكيان على تجاوزها واحتواء الخلافات الراهنة، وهو تساوٍ يضع الواقع الإسرائيلي أمام معادلة قدرية قد تخرق المألوف وتتخطى ضبط الإيقاع.
-
أين تظهر علامات التحوّل في الانقسام الداخلي الإسرائيلي؟
تتواتر التحذيرات من تفاقم الانقسام الداخلي في الكيان الإسرائيلي، ليصل عتبة الاغتيال السياسي، وخاصة بحقّ رئيس جهاز الشاباك رونين بار، في ظل تصاعد موجة التحريض اليميني ضده بعد بيان حزب الليكود الحاكم، والذي اتهم رونين بار بتحويل أجزاء من الشاباك لميليشيا شخصية، وقد استعصت عملية عزله من قبل نتنياهو أمام قرار المحكمة العليا بتجميد عملية الإقالة، بانتظار مزيد من الوقت للنظر في طعون المعارضة، وأهمها الطعن الذي تقدّم به بار وشمل 30 صفحة سرية و7 صفحات علنية صعّد فيها بار اتهاماته لنتنياهو بخوض معارك شخصية على حساب مصلحة "الدولة".
يتلبّد المشهد الإسرائيلي بغيوم ثقيلة، فهل بالفعل يمكن للتطوّرات أن تأخذ الكيان نحو الاغتيال السياسي؟ هل توفّرت البيئة الحاضنة لهذا التحوّل؟ وكيف يمكن قراءة هذه التحذيرات وكلّها تصدر من قادة المعارضة؟ وماذا عن دور الائتلاف اليميني الحاكم في تعزيز هذا التفاقم؟
تتساوى احتمالات وقوع الاغتيال السياسي في الكيان الإسرائيلي، مع قدرة الكيان على تجاوزها واحتواء الخلافات الراهنة رغم خطورتها، وهو تساوٍ يضع الواقع الإسرائيلي أمام معادلة قدرية قد تخرق المألوف وتتخطّى ضبط الإيقاع، فما هي العوامل الدافعة نحو هكذا اغتيال وقد تجاوزت التحريضات الداخلية كلّ الخطوط الحمر؟
أولاً: تبدو علامات التحوّل في الانقسام الداخلي الإسرائيلي، من خلاف سياسي وأمني إلى خلاف أيديولوجي تتكامل ملامحه نحو هدر الدماء، وعبر الأيديولوجية الخارقة للقانون بأمر الرب العبري، يحرّض بن غفير ومعه شريحة واسعة من الليكود ضدّ شخص رونين بار، وهو الشخص الذي تولّى عبء متابعة نشطاء الاستيطان في محاولة لضبط إيقاع جرائمهم في الضفة الغربية، وهو من أوقف بعضهم في الاعتقال الإداري حتى ألغاه وزير الحرب الجديد يسرائيل كاتس.
ثانياً: انفعالات نتنياهو الشخصية ضد رونين بار بدأت تأخذ طابعاً حاداً غير مسبوق، ما يعكس عمق الأزمة الشخصية بين الرجلين، خاصة مع مستوى تصاعد الاتهامات بينهما فيما يتمّ تقديمه للمحكمة العليا وعبر وسائل الإعلام.
ثالثاً: صمود رونين بار الاستثنائي في وجه الحملات العاتية للائتلاف اليميني وأخطرها استهدافه الشخصي من قبل نتنياهو وهو في أوج غطرسته، حيث تحمّل رئيس الشاباك الاتهامات التي تكال ضده على خلفية السابع من أكتوبر، وهي اتهامات حقيقية، لم يصمد إزاءها رئيس أركان الجيش السابق هرتسي هليفي، ولا وزير الحرب السابق يوآف جالانت، ولا بقية القيادات العسكرية والأمنية الذين استقالوا بعد أن تمّ تحميلهم وزر مسؤولية السابع من أكتوبر من دون خضوعهم للجان رسمية، في وقت ما زال فيه نتنياهو يمنع تشكيل لجنة تحقيق رسمية يمكنها أن تضع السيف على عنقه، وهو يبرع في خلق واقع عملي يضع فيه كامل نتائج السابع من أكتوبر في حرج المؤسستين العسكرية والأمنية دون السياسية.
رابعاً: موقف المحكمة العليا ومعها المستشارة القضائية للحكومة الداعم لصمود رونين بار في وجه قرار عزله، وهو ما قد يدفع شريحة يمينية متطرفة لأخذ القانون بيدها، ولعل هذا ما ألمح إليه رئيس المعارضة لابيد حول وجود معلومات استخبارية بوقوع حادث اغتيال سياسي، خاصة بحقّ رونين بار، نظراً للتعبئة العامّة المعلنة ضده ما يشبه الحملة التي شنها اليمين سنة 1995 ضد رئيس الحكومة رابين عقب اتفاقية أوسلو.
خامساً: تضامن المعارضة بشتى تياراتها مع رونين بار، وهو تضامن تمخّض عن اجتماع غير اعتيادي بين؛ لابيد وليبرمان وغانتس وغولن، حيث أطلقوا تحذيراتهم من الاغتيال، وحمّلوا نتنياهو وحزب الليكود مسؤولية الغليان الداخلي المتصاعد في وسائل التواصل الاجتماعي وما قد يترتّب عليه.
سادساً: سبق لليهودي أن سفك الدم اليهودي، واغتيال رابين مثال صارخ، خاصة مع طبيعة التعامل الناعم مع قاتله وهو يحظى باعتقال خمس نجوم، ما يمكن أن يشجّع تكرار العملية ضد رونين بار أو غيره.
في المقابل ثمة قواعد وعوامل كابحة يمكنها تفريغ مجمل الاحتقان الإسرائيلي الداخلي، واحتواء الصدمات وتخفيف حالة الغليان للبقاء وفق الخط الفاصل بين التوتر والانفجار، فما هي هذه القواعد الناظمة والعوامل الكابحة، والتي يستغلّها نتنياهو منذ السابع من أكتوبر، بل منذ الثورة القضائية، ليمضي بـ "دولة" الكيان على حدّ السيف من دون أن يرجف له جفن؟
أولاً: مصلحة التيار اليميني المتطرف بقيادة بن غفير وسموتريتش، وهو التيار المؤهّل أكثر من غيره للتورّط بهكذا اغتيال، بالحفاظ على المنجزات الفكرية والسياسية التي تحقّقت، وهي منجزات كرّسته كتيار شرعي قابل لمزيد من السيطرة الداخلية، وهي منجزات ستتلاشى حال قيام أيّ من أتباعهما بالتورّط بقتل يهودي آخر خاصة عندما يكون مسؤولاً بارزاً، لذا هما وخاصة الأخير متنبّهان لهكذا مخاطر رغم سقف خطابهما المرتفع.
ثانياً: براعة نتنياهو في اللعب على الوتر العاطفي ضمن سقف سياسي قانوني حذر، وهو ما يوصل رسائل غير مباشرة لأنصاره بمستوى التدافع وطبيعة الأدوات.
ثالثاً: رغم العناد الذي يبديه رونين بار ومعه المستشارة والمحكمة والمعارضة، فإنه ومعه داعموه، يحافظون على مستوى من الخطاب الذي لا يكسر المعادلة القائمة على مبدئية حقّ الحكومة القانوني بالتصرّف ضمن صلاحياتها الواسعة الممنوحة لها وفق سيطرتها على الأغلبية البرلمانية.
رابعاً: الشعور الجمعي الإسرائيلي بحالة التهديد وسط حرب غير مسبوقة، في ظل تحديات أمنية واسعة، وهي تتجاوز هزيع السابع من أكتوبر لما هو التهديد الوجودي الذي تمثّله إيران في برنامجها النووي ودعمها غير المحدود للمقاومة، وذلك بمجمله يساهم على تغليب التحدّي الخارجي رغم حدّية الخلافات الداخلية وما يطفو منها على السطح.
خامساً: واقع الخلافات الممتدة منذ الثورة اليمينية على القضاء حتى أزمة محاولة إقالة رئيس الشاباك، يشير إلى نجاح الداخل الإسرائيلي في إدارة الخلاف السياسي والفكري ما يبقيه دون الاقتتال الدموي، وهو ما يفسّر عدم سقوط أيّ قتيل خلال آلاف التظاهرات التي لم تنقطع منذ سيطر نتنياهو على الحكم في "تل أبيب".
سادساً: ثقة الكلّ الإسرائيلي بالقانون واللعبة والداخلية، على الرغم من حدّية الخطاب وطبيعة الإقالات ومستوى التوتر، بحيث يبقى الشعور الجمعي بقوة "الدولة" وأولوية تجاوز التحدّيات الخارجية، طاغياً على نبرة الانقسام واحتواء الصرخات وترشيد حركة الميدان.
تتصارع هذه العوامل المحفّزة للتمزّق الداخلي مع العوامل الكابحة للصراعات، لتبقي واقع الكيان الإسرائيلي ضمن معادلة قدرية تتأثّر بالمفاجآت الحاسمة، في ظلّ عجز الواقع العربي والإسلامي عن هزّ مجمل هذه العوامل ما يفقد الكيان هيبته وثقته بنفسه ويجعله في مهبّ الريح، وهو ما حاول الطوفان أن ينجزاه وما زالا، خاصة أنّ أجواء الاغتيال السياسي في الكيان يمكنها أن تأتي أيضاً ضمن معطى عكسي يتعلق بالمعارضة، وتحديداً عوائل الأسرى الإسرائيليين والمتعاطفين معهم في ظل الجو اليائس الذي يضعهم فيه نتنياهو وأركان حكومته، ما يمكن أن يخرج الأمور عن السيطرة ضمن توقيت لا تبصره عين المراقب ولا تضبطه كوابح الطريق.