بين لاءات الخرطوم ولاءات التطبيع.. هل تجرؤ القمة على استعادة القرار العربي؟
التحدّي الحقيقي أمام قمة القاهرة لا يكمن في إصدار بيان إدانة آخر، ولا في استجداء المجتمع الدولي لاتخاذ موقف، بل في إحداث تحوّل جذري في طريقة تعاطي العرب مع القضية الفلسطينية.
عندما اجتمع القادة العرب في الخرطوم بعد نكسة 1967، لم يكن السياق الدولي والإقليمي أقلّ تعقيداً ممّا هو عليه اليوم. لكنهم خرجوا بلاءاتٍ ثلاث أصبحت حجر الأساس في الموقف العربي: (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض). تلك القمة لم تُعد فلسطين إلى أصحابها، لكنها على الأقلّ حمت الموقف العربي من الانهيار التامّ.
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، تأتي الدعوة لانعقاد قمة عربية طارئة في القاهرة وسط عدوان وحشيّ على قطاع غزة، ومؤامرات تُحاك لإعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة. لم يعد السؤال فقط: هل ستُعقد القمة؟ بل: هل ستمتلك الإرادة السياسية لاتخاذ موقف تاريخي، أم ستكون مجرّد منصة جديدة للمناشدات؟
بين لاءات الخرطوم و"مبادرات السلام".. من الثبات إلى الانحدار
لم تكن قمة الخرطوم مجرّد اجتماع طارئ لتضميد الجراح بعد نكسة حزيران، بل كانت محاولة لصياغة موقف عربي صلب في مواجهة الهزيمة. حينها، أدرك العرب أنّ فقدان الإرادة السياسية أخطر من فقدان الأرض، فرفعوا لاءاتهم الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض. لم تكن هذه اللاءات مجرّد عبارات حماسية، بل كانت بوصلة سياسية حمت الموقف العربي من الانهيار السريع، وأبقت القضية الفلسطينية في صدارة الأولويات رغم كلّ الضغوط.
لكن مع مرور العقود، بدأت تلك اللاءات تتأكّل، ليس بفعل القوة الإسرائيلية فحسب، بل بسبب تراجع الإرادة العربية نفسها. تحوّلت المؤتمرات العربية من إعلانات مواجهة إلى محطات تنازل تدريجي، حيث بدأ المسار العربي ينحرف، من الصمود إلى المساومة، ومن المواجهة إلى تقديم التنازلات المجانية، وصولاً إلى حالة بات فيها بعض القادة العرب وسطاءَ بين المحتل والضحية.
اختراق الجدار العربي
كان توقيع اتفاقية كامب ديفيد أوّل اختراق حقيقي للموقف العربي، حيث تحوّلت لاءات الخرطوم إلى أوّل صلح منفرد بين دولة عربية و"إسرائيل"، من دون تحقيق أيّ مكاسب حقيقية للفلسطينيين.
كان الاتفاق بمثابة الثغرة الأولى التي دخلت منها "إسرائيل" إلى قلب النظام الرسمي العربي، حيث أدّى إلى كسر فكرة العداء المطلق مع الاحتلال، وفتح المجال لمزيد من التسويات المنفردة.
حين صار الاحتلال "إدارة ذاتية"
مع مؤتمر مدريد ثمّ اتفاقية أوسلو، تراجع الموقف العربي إلى سياسة المفاوضات المفتوحة. تحوّلت القضية الفلسطينية من كونها قضية تحرير وحقوق ثابتة إلى ملف إداري يخضع للحلول الجزئية.
كانت أوسلو الضربة الأشدّ، حيث اعترفت منظمة التحرير بـ "إسرائيل" من دون أن تحصل على دولة فلسطينية فعليّة، بينما حصل الاحتلال على شرعية جديدة توسّعت معها المستوطنات وتصاعد القمع. أصبحت "السلطة الفلسطينية" كياناً إدارياً محدود الصلاحيات، بينما ظلت "إسرائيل" تسيطر على الأرض والموارد والحدود.
عرض التطبيع المجاني
كانت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت 2002 محاولة يائسة لإعادة صياغة المسار العربي، حيث عرضت الدول العربية تطبيعاً كاملًا مع" إسرائيل" مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة.
لكنّ الردّ الإسرائيلي لم يكن إيجابياً، بل جاء عبر مجازر في الضفة وغزة واغتيال قادة المقاومة. لم تتعامل "إسرائيل مع المبادرة بجدّية، لأنها أدركت أنّ الجانب العربي بات يتقدّم نحو الحلول السلمية من دون أيّ ضغط سياسي أو عسكري حقيقي.
السقوط الكامل
مع صعود ترامب، لم تعد "إسرائيل" بحاجة حتى إلى تقديم "وهم" الحلّ العادل. جاءت "صفقة القرن" لتؤكّد أنّ الاحتلال ليس مضطراً لتقديم أيّ تنازلات، بل العكس، يمكنه فرض رؤيته بالكامل، بينما يتمّ الضغط على الفلسطينيين للقبول بالأمر الواقع.
ثم جاءت اتفاقيات التطبيع، حيث تسابقت بعض الدول العربية نحو التقارب العلني مع "إسرائيل" من دون أيّ مكاسب سياسية أو التزام بوقف العدوان. لم تعد القضية الفلسطينية حجر عثرة أمام العلاقات مع الاحتلال، بل أصبح بعض القادة العرب شركاء في تصفية القضية عبر تمرير مشاريع مثل التهجير القسري، والتضييق على المقاومة، والتعاون الأمني مع الاحتلال.
من لاءات المقاومة إلى سياسة التماهي مع الاحتلال
كلّ قمة جديدة كانت تبتعد أكثر عن لاءات الخرطوم وتقترب من تقديم التنازلات، حتى وصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها الموقف العربي موقفاً، بل مجرّد ردود فعل باهتة. كانت قمة الخرطوم قمة اشتباك سياسي مع الاحتلال، أما القمم اللاحقة، فكانت مجّرد محطات تقبّل للأمر الواقع، بل ومساهمة في تكريسه.
إذا كان العرب في 1967، رغم الهزيمة، قد قالوا "لا" للصلح والاعتراف والتفاوض، فماذا سيقولون اليوم، وقد بات الاحتلال أشدّ توحّشاً، والقدس محاصرة، وغزة تحترق؟
هل ستكون قمة القاهرة 2024 قمة لاءات جديدة، أم مجرّد حلقة أخرى في مسلسل التراجع.
ماذا يريد الشعب العربي؟
لم يعد الشارع العربي بحاجة إلى بيانات إدانة جوفاء أو دعوات ضبط النفس. الدماء التي تُسفك في غزة والضفة والجنوب اللبناني لا تنتظر بيانات التضامن، بل مواقف حقيقية تُترجم إلى أفعال.
منذ عقود، كانت القمم العربية تعقد وسط الآمال، لكنها غالباً ما تنتهي بخيبات تتراكم فوق الجراح. اليوم، لم يعد هناك متسع لمزيد من المراوغات الدبلوماسية، بل المطلوب هو موقف يعيد رسم المشهد العربي، ويردّ الاعتبار للموقف الرسمي الذي فقد بوصلته منذ عقود.
الشعب العربي يعرف تماماً أنّ الاحتلال لا يرتدع بالكلمات، وأنّ الحقوق لا تُستعاد بمبادرات خجولة، بل بالمواقف الحازمة التي تضع حدّاً لمهزلة المساومة والتطبيع المجاني. القمة المرتقبة ليست مجرّد اختبار للقادة، بل اختبار لإرادة أمة بأكملها: إما أن تكون خطوة نحو استعادة الكرامة العربية، أو محطة أخرى في مسار التراجع والانهيار.
- رفض أيّ مسار لتصفية القضية الفلسطينية
المخطط المطروح اليوم يتجاوز العدوان العسكري إلى إعادة هندسة المنطقة سياسياً وديموغرافياً، عبر تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من هويتهم الوطنية. المطلوب موقف عربي حاسم يرفض الترحيل القسري، ويواجه كلّ محاولات فرض "حلول تصفوية" على الأرض.
- إعادة تعريف العلاقة مع "إسرائيل"
التطبيع لم يكن بوابة السلام كما رُوّج له، بل تحوّل إلى أداة لضرب وحدة الصف العربي. القمة يجب أن تضع إطاراً عربياً موحّداً ينصّ على أنّ أيّ علاقة مع "إسرائيل" يجب أن تكون مشروطة بوقف العدوان والالتزام بحقوق الفلسطينيين، وليس وفقاً لمصالح القوى الدولية.
- استعادة الاستقلالية العربية
كثير من القمم العربية السابقة كانت مجرّد غطاء سياسي للتدخّلات الأميركية في المنطقة، من دعم غزو العراق إلى السكوت عن تدمير سوريا وليبيا واليمن. آن الأوان لموقف عربي مستقل يقطع التبعيّة لواشنطن، ويتعامل مع القوى الدولية بنديّة، وليس كمجرّد تابع يكرّر إملاءاتها.
- دعم المقاومة كحقّ مشروع
بدلًا من اعتبار المقاومة الفلسطينية عبئاً دبلوماسياً، يجب الاعتراف بها كحقّ مشروع وفق القانون الدولي. لا أحد طالب أوروبا في الحرب العالمية الثانية بالتفاوض مع النازيّين، فلماذا يُطلب من الفلسطينيين أن يقبلوا الاحتلال كأمر واقع؟ المطلوب من القمة تبنّي موقف صريح بأنّ المقاومة ليست إرهاباً، بل حقٌّ أصيل في مواجهة العدوان.
نحو لاءات جديدة.. أو قمة للنسيان؟
التحدّي الحقيقي أمام قمة القاهرة لا يكمن في إصدار بيان إدانة آخر، ولا في استجداء المجتمع الدولي لاتخاذ موقف، بل في إحداث تحوّل جذري في طريقة تعاطي العرب مع القضية الفلسطينية.
لم يعد هناك مجال للمساومات أو لغة "التوازنات السياسية" التي غالباً ما تكون غطاءً للعجز والتقاعس. المطلوب اليوم لاءات واضحة وصريحة، تنقل الموقف العربي من دائرة الترقّب إلى مساحة الفعل والتأثير:
* لا وقف لإطلاق النار قبل وقف العدوان ورفع الحصار
يجب أن يكون الموقف العربي منسجماً مع الواقع الميداني، فلا يمكن فرض تهدئة تمنح "إسرائيل" فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب صفوفها بينما يبقى الفلسطينيون تحت نيران الحصار والقصف. وقف إطلاق النار يجب أن يكون مشروطاً بوقف العدوان، ورفع الحصار الكامل عن غزة، وضمانات دوليّة بعدم تكرار المجازر.
* لا لتمرير أيّ مشروع سياسيّ يستهدف تصفية القضية
لقد أثبتت التجربة أنّ كلّ مبادرة تُطرح تحت شعار "حلول السلام" ما هي إلا محاولة لتصفية القضية الفلسطينية تدريجياً. من "صفقة القرن" إلى فكرة "البدائل السياسية"، كلّها مشاريع تهدف إلى إلغاء حقّ العودة، وتكريس الاحتلال، وشرعنة المستوطنات، وتحويل القضية من قضية تحرّر إلى مسألة إنسانية وإغاثية. يجب أن يكون الموقف العربي قاطعاً في رفض أيّ حلول تفرضها واشنطن و"تل أبيب"، والتي غالباً ما تستند إلى الضغط العسكري والتجويع.
* لا لاستمرار العلاقات مع الكيان الصهيوني من دون ثمن سياسي واضح
التطبيع الذي تمّ تقديمه مجاناً خلال السنوات الأخيرة لم يكن سلاماً حقيقياً، بل كان غطاءً لتمكين "إسرائيل" من فرض هيمنتها على المنطقة. الآن، وبعد أن ثبت أنّ الكيان الصهيوني لم يكن يوماً شريكاً للسلام، فإنّ على القمة أن تعيد النظر في جميع أشكال العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع الاحتلال. لا معنى لاستمرار اتفاقيات التطبيع بينما تمارس "إسرائيل" أبشع أنواع القتل والتهجير بحقّ الفلسطينيين. إما أن يكون هناك موقف عربي مشترك يفرض ثمناً سياسياً لوجود "إسرائيل" في المنطقة، أو أن تظلّ هذه الاتفاقيات مهزلة سياسية على حساب الشعوب.
* لا للارتهان للقرار الأميركي في قضايا تخصّ مستقبل شعوبنا
منذ عقود، والعالم العربي يدفع ثمن تبعيّته السياسية للولايات المتحدة. كانت واشنطن دائماً الراعي الأوّل لكلّ المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية، وها هي اليوم تقود العدوان على غزة، وتحمي "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً. لا يمكن أن يبقى القرار العربي رهينة للإملاءات الأميركية. يجب أن يكون هناك موقف عربي مستقلّ، يتعامل مع القوى الدولية من منطلق المصالح الوطنية والقومية، لا كمجرّد تابع ينفّذ الأوامر.
إذا لم تخرج القمة بهذه الروح، فإنها لن تكون سوى اجتماع آخر يُضاف إلى قائمة القمم الفاشلة التي تُعقد في القاعات الفاخرة، بينما يُترك الفلسطينيون وحدهم في الميدان.
القادة العرب أمام لحظة تاريخية حاسمة: إما أن يصنعوا قمة تُكتب في صفحات المجد السياسي، أو قمة تُطوى في أرشيف النسيان، تماماً مثل غيرها من القمم التي لم تغيّر شيئاً، بينما تغيّرت معالم الأرض تحت أقدام الاحتلال.