تصدّعات داخلية في جدران الغيتو الإسرائيلي، ما الدلالات!

التنشئة السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية لها آلياتها التي تقوم على التعبئة والاستنهاض، كما أنها تركّز على أهمية شعور الفرد، وكذلك المجموعة، بالاضطهاد.

0:00
  • تصدعات الداخل الإسرائيلي.. ما القصة؟
    تصدعات الداخل الإسرائيلي.. ما القصة؟

يحتدم الجدل داخل "إسرائيل" وتتصاعد الخلافات مع استمرار الحرب الإسرائيلية التدميرية على القطاع والتي باتت، وفق غالبية كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، حرباً سياسية تخدم زمرة اليمين الصهيوني الحاكم وأجندته المتطرّفة.

بلغ الجدل ذروته هذا الأسبوع عقب تصريحات زعيم حزب "الديمقراطيين" الإسرائيلي المعارض، يائير غولان، والتي أثارت ردود فعل غاضبة داخل الحكومة والمعارضة على السواء. صعّد غولان هجومه على الحكومة الإسرائيلية واصفاً إياها بـ "العاجزة" و"المليئة بأشخاص عديمي الأخلاق الذين تتملكهم مشاعر الانتقام"، مشدّداً على أنها "تشكّل خطراً على وجود إسرائيل"، وختم غولان أنّ "الدولة العاقلة لا تشنّ حرباً على المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تضع لنفسها هدف ترحيل السكان".

اللافت المهم في هذه التصريحات، التي سبقتها تصريحات مشابهة لوزير الحرب الأسبق موشيه "بوجي" يعلون والتي وصف فيها ما يرتكبه "الجيش" الإسرائيلي في غزة بالتطهير العرقي، ليس فقط توقيتها وسياقاتها، بل في أنها تؤسس لتهشيم جدار الإجماع الصهيوني حول سردية "الجيش الأكثر أخلاقية"، إذ ظلّ المجتمع الإسرائيلي لسنوات طويلة يحتمي خلف هذه الشعارات وهو يرتكب الفظائع، حتى باتت تشكّل جدراناً دفاعية سميكة في الوعي الإسرائيلي يصعب على أحد أن يخترقها أو أن يتمرّد عليها.

وكأنّ هذه "المعازل" أشبه بآليات دفاعية تلجأ إليها الشخصية الإسرائيلية لتحمي نفسها من ردود الفعل التي يثيرها سخط العالم وانتقاده وألم الضحايا وصراخهم، ولتخلّص نفسها من وطأة الشعور بالذنب والندم. ولعلّ أهم مظاهر سيكولوجيا هذا "الغيتو" الإسرائيلي تتبدّى في حالة عدم اكتراث الرأي العامّ الإسرائيلي بكلّ ردود الفعل التي تثيرها أعمال القتل والتجويع الجماعي لآلة القمع الإسرائيلية في قطاع غزة.

وفي هذا السياق، يبدو جلياً أنّ التنشئة السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية لها آلياتها التي تقوم على التعبئة والاستنهاض، كما أنها تركّز على أهمية شعور الفرد، وكذلك المجموعة، بالاضطهاد.

وبهذا، يتشكّل نمط سلوكي لدى الإسرائيلي يقوم من خلاله بإزاحة القلق وحلّ الأزمة عن طريق التغاضي عن المشاعر "الغيرية"، وإنكارها وإلقاء المسؤولية على الضحية نفسها.

لذلك، لا مجال للتساهل أو التعاطف والرحمة عند الإسرائيلي، لأنّ المجتمع الذي يعيش فيه يقرّر سلوكيّاته بما يخدم "آلية الجمع"، وكلما وهنت هذه "الآليات الدفاعية" وبرزت علامات تأنيب ضمير، ولو فردية طفيفة، عملت الحكومات والأحزاب والإعلام والمؤسسات الإسرائيلية الموازية على استنهاضها، ومن يجرؤ على الخروج عنها يُنعت بالخيانة أو بـ "اليهودي الكاره لنفسه"، وكلّ من يندمج ويتماهى مع هذه الآلية، يصبح بطلاً أو مواطناً صالحاً. 

ومن هنا يمكننا فهم حجم ردود الفعل الغاضبة وغير المسبوقة من تصريحات يائير غولان أو أولمرت ويعالون، حتى وصل الأمر بتحميلهم مسؤولية حادثة القتل لاثنين من الدبلوماسيين الإسرائيليين في الولايات المتحدة يوم أمس الخميس، إذ صرّح بن غفير "أنّ معادي السامية في العالم يستمدّون القوة من السياسيين الأشرار في إسرائيل"، واتهم جولان "بالإدلاء بافتراءات دموية معادية لإسرائيل".

 كما أعلن وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عدم تهاون "إسرائيل" مع تصريحات يائير جولان، ضدّ "إسرائيل وجيشها"، مؤكداً أنّ الافتراءات الدموية المعادية للسامية ضدّ "إسرائيل" هواية جولان، وأنّ يائير جولان إرهابيّ يحاول عرقلة تحقيق أهداف الحرب ويهدّد أمن جنودنا"، مؤكداً أنّ "من شبّه إسرائيل بالنازية ويشوّه سمعتها وجيشها خلال الحرب يجب نبذه". من جهته، دعا زعيم حزب "معسكر الدولة" بيني غانتس غولان إلى التراجع والاعتذار لمقاتلي "الجيش" الإسرائيلي، معتبراً تصريحاته متطرّفة وكاذبة.

هذه الثقافة الانغلاقيّة التي لا تتصالح ولا تتهاون بالمطلق مع نقد السردية الإسرائيلية السائدة، خاصة إذا ما أتت من داخل "المعزل"، تهدف إلى حفظ "التميّز الأخلاقي الإسرائيلي" وإدامته، وفرضه على المجتمع الدولي، حيث الانغلاق هو مدخل الاصطفاء والمحافظة على البقاء، وهو ما يعني ضمناً رفض الاعتراف بالآخرين، أي "الأغراب"، أو "الأغيار" وآلامهم والاكتفاء بالتعامل معهم كأضداد مختلفين، فهم شعوب من الدرجة الثانية، وهم خارج دائرة القداسة، وليس ثمّة ما يمنع هدر حقوقهم أو قتلهم في حال تعارضت مصالحهم مع مصالح "شعب الله المختار". وقد باتت هذه التعاليم اللاإنسانية تُقتبس وتُردّد علناً في "إسرائيل"، لتبرير اغتيال الفلسطينيين وقتلهم والتنكيل بهم وطردهم من فلسطين.

في كلّ الأحوال، المؤكّد أنّ تصريحات جولان أحدثت شرخاً كبيراً داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي يعاني أصلاً من الانقسام ويتحرّك في اتجاهات مختلفة. كما أنّ أهمية هذه التصريحات لا تنبع فقط من مضمونها، أو من مصدرها، حيث تصدر، وفي سابقة غير معهودة في المجتمع الإسرائيلي وفي خضمّ الحرب، من مسؤولين إسرائيليين سياسيين وعسكريين سابقين، بل من إمكانية الاستدلال بها في المنابر السياسية والقضائية الدولية لأغراض المساءلة والملاحقة الجنائية، على قاعدة "من فمك أدينك" وهي مفارقة لافتة في هذا السياق.

كما أنّ اللافت أيضاً، أنّ الحكومة الإسرائيلية التي دعت إلى التهجير والتجويع، اعتادت أن تواجه الانتقادات الخارجية بكيل تهمة "معاداة السامية" لمنتقديها في محاولة لإخافتهم وإسكاتهم، لم تتوانَ كذلك عن استخدام الديباجات ذاتها حول "معاداة السامية" مع اليهود، خصومها من الداخل، في تناقض فاضح فجّ يعرّي ويجرّد هذه الفزّاعة من معناها، فكيف للسامي "المختار" أن يُعادي ذاته..!

خلاصة القول يبدو أنّ الأسوار، بشقّيها المادي والمعنوي، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الانعزال والاستعلاء في المجتمع الإسرائيلي، لم تعد متينة بما يكفي لتحمي أولئك الذين يتحصّنون داخلها من شرور وممارسات العقلية الإسرائيلية العنصرية‏، ويبدو أنّ تصدّعات كبيرة ومؤثّرة تصيب جدران رواية "الاصطفاء والأخلاقية" من الداخل، ولم يعد يُجدي نفعاً التعامل مع خصوم الداخل بمنطق الغيتو والانعزال أو الإقصاء، وهو ما عبّرت عنه عضو الكنيست ميراف كوهين من حزب "يش عتيد" حين غرّدت أنّ "نتنياهو يواصل تشغيل ماكينة التحريض، وأعتقد أنّ هذا التحريض، وكلّ هذه الأكاذيب، وكلّ نظريات المؤامرة عن خيانة من الداخل، ستنتهي بجريمة قتل".