رهاب "إسرائيل": خطة ترامب كعلاج

المفارقة التي تواجهها "إسرائيل" هي أنها تملك كلّ القوة العسكرية لتدمير أعدائها، لكنها تفتقر للقوة النفسية للتعايش مع وجودهم.

0:00
  • رؤية ترامب محاولة لإخراج
    رؤية ترامب محاولة لإخراج "إسرائيل" من الحلقة المغلقة التي تجد نفسها فيها.

شهدت "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر 2023 واحدة من أكثر اللحظات زلزلةً في تاريخها الأمني والعسكري. فالهجوم المفاجئ أدّى إلى انهيار ثلاثة أعمدة من العقيدة العسكرية الإسرائيلية: الإنذار المبكر، الردع، والسيطرة على المجال العملياتي.

وعلى مدى عامين من الحرب في غزة، ورغم ما حقّقته "إسرائيل" من إنجازات عسكرية على صعيد تدمير الجزء الأكبر لقدرات المقاومة في غزة، إلا أنها لم تستطع تحقيق نتيجة يمكن وصفها بحسم استراتيجي، كون الدرس الأول من السابع من أكتوبر إسرائيلياً، كشف أنّ إبقاء الخصم "ضعيفاً نسبياً" لا يمنع الانهيار الأمني الكامل.

وبناءً عليه، بعد توقيع اتفاقات وقف النار ظهرت استراتيجية إسرائيلية هجينة كنموذج موسّع من جزّ العشب، تحت مسمّى جديد: "حرية العمل العسكري".

لكنّ الأمر أكثر تعقيداً من تحوّلات في المفاهيم العسكرية الإسرائيلية، لأنّ البيئة الاستراتيجية لصنع القرار الإسرائيلي تعاني من ما يمكن تسميته "رهاب السابع من أكتوبر"، الذي بات العنصر الخفي في صناعة القرار الإسرائيلي.

فعلى مستوى القرار العسكري الرهاب عامل مُوجّه للعمليات العسكرية، فداخل "الجيش" الإسرائيلي، توجد الآن قناعة أنّ "الخطأ في عدم الضرب أخطر من الخطأ في الضرب".

والنتيجة:

ضربات استباقية أوسع، تقدير تهديد تضخيمي، عمليات مبنية على الخوف من تكرار مفاجأة جديدة، وليس فقط على تقديرات موضوعية.

وبالتالي الرهاب يقود إلى سلوك هجومي دائم حتى في الفترات التي يُفترض أن تسود فيها التهدئة.

 بعبارة أخرى، القرار العسكري الإسرائيلي بات مُسيّراً بشعور الخوف أكثر من كونه مستنداً إلى ثقة بالقدرات.

أما على المستوى السياسي، بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وقيادة الحكومة الأكثر يمينية، الاعتراف بالفشل الأمني ممنوع سياسياً، لذلك يتمّ تضخيم التهديد لإبقاء المجتمع في حالة تعبئة، وبذلك استمرار العمليات العسكرية يصبح وسيلة سياسية لتجنّب مساءلة داخلية.

وفي المحصّلة، أثّر الرهاب على بيئة اتخاذ القرار الإسرائيلي من خلال:

١. تفضيل الردود المفرطة على الردود المحسوبة.

٢. تضييق هامش النقاش داخل المؤسسة الأمنية.

٣. تحوّل "الجيش" إلى مؤسسة تعمل تحت ضغط نفسي مستمر.

٤. تراجع قدرة السياسيين على اتخاذ قرارات استراتيجية بعيدة المدى.

الرهاب هنا ليس حالة نفسية فقط، بل بيئة معرفية تعيد تشكيل كيف تفهم "إسرائيل" التهديد وكيف تستجيب له، وبذلك يتضح أنّ "إسرائيل" لم تعد تعمل وفق منظومة مستقرة، والرهاب يوجّه القرار أكثر مما يوجّهه التحليل الاستراتيجي، هذا يعني أنّ "إسرائيل" تعيش أزمة عقيدة عسكرية، لا مجرّد أزمة ظرفية.

وفي ظلّ غياب رؤية استراتيجية جديدة، ستبقى "إسرائيل" في دائرة العمليات المستمرة، من دون قدرة على إنهاء التهديد أو إنتاج أمن مطلق، الأمر الذي يجعل "إسرائيل" بعد توقيع اتفاق وقف الحرب:

١. ترفض وقف الحرب نهائياً.

٢. تواصل عمليات "منع التمكين" حتى بعد التهدئة.

٣. تعيد تعريف "التهديد المقبول" من مستوى منخفض إلى مستوى يقارب الصفر.

وبذلك، يصبح من الصعب على القيادة الإسرائيلية إعلان نهاية واضحة للحرب، حتى لو وصلت إلى مستويات لم تحقّقها في أيّ مواجهة سابقة. لذلك تقف "إسرائيل" اليوم أمام خيار مركّب:

إضعاف كبير لأعدائها لكنها غير قادرة على استثماره كـ"نصر نهائي"، وخوف كبير لكنها غير قادرة على خوض حرب شاملة جديدة.

وهذه هي المفارقة التي ستظلّ تحكم سلوك "إسرائيل" في السنوات المقبلة: " قوة كبيرة… وخوف أكبر".

في خضمّ هذا الواقع الأمني والنفسي المرتبك داخل "إسرائيل"، برزت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تعاملت مع الأزمة الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر ليس كتحدٍ أمني فحسب، بل كلحظة كاشفة لأزمة بنيوية.

ترامب، الذي التقط مبكراً رعب "إسرائيل" من ذاتها، طرح خطته ذات العشرين نقطة. هذه الخطة لم تبقَ مجرّد مبادرة، بل تحوّلت إلى إطار عمل دولي بتبنّي مجلس الأمن للقرار 2803، الذي أيّد الخطة ودعا لإنشاء قوة استقرار دولية في غزة. هذا التحرّك يتخطّى وقف إطلاق النار ليكون مدخلاً لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، وليس مجرّد إنهاء معركة في غزة.

فمن وجهة نظر ترامب، لا تستطيع "إسرائيل"—في ظلّ صدمة 7 أكتوبر—أن تستعيد دورها إذا بقيت سجينة عقلية الخوف. ولهذا جاءت رؤيته القائمة على:

1. خلق بيئة استراتيجية جديدة عبر شراكات واسعة.

2. تخفيف التهديدات عبر ترتيبات أمنية إقليمية، مثل قوة الاستقرار الدولية التي نصّ عليها القرار 2803.

3. تفكيك حواف الصدمة بجعل أمن "إسرائيل" جزءاً من منظومة أمنية أكبر.

4. إعادة تأهيل "إسرائيل" للتفكير خارج "الخوف الوجودي".

رؤية ترامب هنا ليست مجرّد دبلوماسية، بل محاولة لإخراج "إسرائيل" من الحلقة المغلقة التي تجد نفسها فيها: قوة عسكرية كبيرة، لكن قدرة سياسية ونفسية شبه مشلولة. وهذا يعكس إدراكاً أميركياً بأنّ "إسرائيل"—بعد عامين من الحرب—أصبحت بحاجة إلى "سياق جديد" أكثر من حاجتها إلى "انتصار جديد".

في النهاية، المفارقة التي تواجهها "إسرائيل" هي أنها تملك كلّ القوة العسكرية لتدمير أعدائها، لكنها تفتقر للقوة النفسية للتعايش مع وجودهم. ومن هنا، تأتي خطة ترامب ليس كهدية لـ "إسرائيل"، بل كـ"علاج" ضروري لـ "دولة" عسكرية تخشى ظلّها، وتعاني رهاب وجودها.