عام من وقف النار: ديناميت القوة وصراع الإرادات

مستقبل الصراع معلّق بين قدرة حزب الله على الصمود في معادلة الاستنزاف الإسرائيلية، وقدرة "إسرائيل" على الإفلات من فخّ الروتين البطيء الذي يقوّض مفاعيل استراتيجيتها.

0:00
  •  المقاربة الإسرائيلية القائمة على الاستمرار في العمل العسكري تواجه سؤال الجدوى.
    المقاربة الإسرائيلية القائمة على الاستمرار في العمل العسكري تواجه سؤال الجدوى.

بعد عامٍ من الاتفاق اللبناني–الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، الذي دخل حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 وسُوِّق له على أنه خطوة نحو استقرارٍ دائم، يتبيّن اليوم أنّه تحوّل إلى هدنةٍ شكلية في أحسن الأحوال، وإلى أداة ضغط تُدار وفق الرؤية الإسرائيلية المدعومة أميركيًا لنزع سلاح حزب الله، وإدخال لبنان إلى مربع التطبيع الإسرائيلي عبر "اتفاقات أبراهام".

عامٌ على الاتفاق، والصراع الرئيس بات صراعَ إرادات بين حزب الله الذي يسعى بكل قوته إلى ترميم قدراته على مختلف المستويات، لفرض معادلات اشتباك تمنع "إسرائيل" من التغلغل داخل الأرض اللبنانية وتحفظ سيادتها، وبين "إسرائيل" التي لا تسعى فقط إلى إفشال مساعي الحزب في استعادة قدراته، بل ترى أنّ البيئة ما بعد الحرب أصبحت مهيّأة لنزع سلاحه وتدمير قوته السياسية داخل لبنان. ولذلك، انتهجت استراتيجية ثلاثية الأبعاد لتحقيق أهدافها، تتمثّل في:

أولًا: ضغط داخلي لبناني على حزب الله، تحت وطأة تداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية وإعادة الإعمار والتجاذبات السياسية الداخلية. هذا الضغط يشدّ الخناق على الحزب عبر محاولة نزع الشرعية الوطنية عن سلاحه، وإدخاله في دوامة الأزمات، سواء مع الأحزاب المناهضة أو الحكومة أو حتى مع الجيش اللبناني.

ثانيًا: الضغط الأميركي وشركاؤه في المنطقة، إذ تمارس الولايات المتحدة كامل أدواتها في لبنان وفي الإقليم بهدف نزع سلاح حزب الله وحفظ أمن "إسرائيل"، تمهيدًا لإدخال لبنان في مسار "السلام الإبراهيمي". ومن نتائج ذلك إعلانُ الحكومة اللبنانية أنها ستنزع سلاح حزب الله جنوب الليطاني قبل نهاية عام 2025.

ثالثًا: حرية العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان بعد توقيع الاتفاق. وهذه الاستراتيجية متطوّرة عن نظرية "جزّ العشب"، سواء من حيث اتساع نطاق القصف على أكبر مساحة ممكنة من لبنان، أو من حيث ترافقه مع عمليات عسكرية محدودة.

رغم أنّ الخطة الأميركية بُنيت على أن يكون نزع سلاح حزب الله مهمةً لبنانية، يقوم بها الجيش اللبناني من خلال استثمار تداعيات الحرب الإسرائيلية في لبنان، ومجيء نظام سوري جديد مناهض لمحور المقاومة، وخلق مناخ سياسي داخلي يشيطن سلاح الحزب، فإن المقاربة لم تنجح بعد عامٍ من توقيع اتفاق وقف النار. ولم يبقَ أمام الإسرائيليين سوى اللجوء إلى القوة العسكرية المباشرة لنزع سلاح حزب الله.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أمور عدة:

أولًا: الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية، من اغتيالات وقصف لمقدرات عسكرية ومؤسساتية، تُبطئ وتيرة استعادة حزب الله قوته، لكنها في الوقت نفسه تتعارض مع الهدف المرجو منها. فهذه الاعتداءات تمنح الحزب وسلاحه مزيدًا من الشرعية اللبنانية، وتدفع نحو تقارب حقيقي بينه وبين الدولة، كونه يمتلك السلاح الوحيد القادر على حماية لبنان من التغلغل الإسرائيلي، في ظل عدم قدرة الجيش اللبناني على مواجهة "إسرائيل" لاعتبارات عدة.

ثانيًا: استمرار حرية العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان، وتطبيق نسخة مطوّرة من نظرية "جزّ العشب"، ورغم حصول "إسرائيل" على وثيقة جانبية من واشنطن تتيح لها عمليًا العمل ضد تعاظم قوة الحزب بطرق متعددة، فإن ذلك يزيد هشاشة وقف إطلاق النار. ومن المحتمل أن يعيد المنطقة إلى حرب شاملة، وهو ما قد يخلط أوراق الشرق الأوسط مجددًا ويدخله في دوامة حرب، بما يتعارض مع المصلحة الأميركية.

ثالثًا: المقاربة الإسرائيلية القائمة على الاستمرار في العمل العسكري تواجه سؤال الجدوى. فبحسب تقارير إسرائيلية، أقرت المؤسسة الاستخبارية بأن وتيرة إعادة بناء حزب الله لقدراته أسرع من وتيرة "جزّ العشب". وحتى في حال الذهاب إلى حرب سريعة في لبنان، فإن تجربة حرب غزة أثبتت للإسرائيليين أنّ زمن الحروب السريعة الخاطفة قد انتهى. وبالتالي، فإن أي حرب مقبلة ستنتهي باتفاق سياسي، وهو حاضر فعليًا منذ الآن.

وبما أن البند الأبرز في اتفاق وقف إطلاق النار هو نزع سلاح حزب الله، وفقًا للقرار 1701، والذي يُعدّ الهدف الأسمى إسرائيليًا وأميركيًا، فإن العنصر الأهم الذي سيحدد مستقبل الصراع بين حزب الله و"إسرائيل" يتمثل في قدرة الحزب على التكيف مع الوضع الجديد، وإيجاد استراتيجية شاملة تمكّنه من ترميم قدراته وتعزيز شرعية سلاحه عبر حاضنة شعبية وسياسية داعمة له داخل لبنان.

أمّا على الجانب الإسرائيلي، فإن التحدي الأكبر — في ظل استبعاد خيار الحرب الشاملة — فهو قدرة "إسرائيل وجيشها" وجبهتها الداخلية، ومن خلفهم الولايات المتحدة، على الاستمرار في تنفيذ استراتيجية "جزّ العشب" المعدّلة، وتوفير البيئة الملائمة لها في كل الأوقات. وقد صرّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه عازم على مواصلة سياسة "فرض الحدّ الأقصى من القوة في لبنان وفي أي مكان آخر"، مؤكدًا: "لن نسمح بالعودة إلى واقع ما قبل 7 أكتوبر"، أي عدم العودة إلى مرحلة التغاضي عن الأنشطة التي كان يقوم بها حزب الله.

وكما كتبت سريت زهافي، رئيسة مركز "علما" والعقيد الاحتياط في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان": "حزب الله يحاول باستمرار إعادة ترميم نفسه، والجيش الإسرائيلي يعمل ضد محاولات إعادة البناء هذه. إذا كان ما قام به الجيش الإسرائيلي خلال العام الماضي في لبنان هو قصّ العشب… فمن سيفوز في هذا الصراع على المدى البعيد؟ لست متأكدة تمامًا."

وبذلك يغدو مستقبل الصراع معلّقًا بين قدرة حزب الله على الصمود في معادلة الاستنزاف الإسرائيلية، وقدرة "إسرائيل" على الإفلات من فخّ الروتين البطيء الذي يقوّض مفاعيل استراتيجيتها مع مرور الوقت.