فلسطين والاعتراف الدولي.. بين المكاسب الرمزية والكمائن السياسية

ما دامت واشنطن متمسكة باستخدام "الفيتو"، فإن سقف التوقعات الواقعية يظل محدوداً، وعندها سيظل الخطر قائماً بأن تتحوّل الاعترافات الكثيرة إلى مجرد "حبر على ورق".

  • ماذا يعني الاعتراف الدولي بفلسطين؟
    ماذا يعني الاعتراف الدولي بفلسطين؟

منذ أن أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 قيام "دولة فلسطين" على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ظل الاعتراف الدولي بهذا الإعلان يتوسع تدريجياً.

رغم ذلك، ظل الرأي العام العربي والفلسطيني منقسماً حول النهج الذي تبنّته القيادة الفلسطينية، إذ رأى كثيرون أن الإعلان، الذي ألقاه الشاعر الراحل محمود درويش، ينطوي على قبول بشرعية الاحتلال الإسرائيلي لما يقارب 78% من مساحة فلسطين التاريخية.

مؤخراً، شهدت قضية "الدولة الفلسطينية" تحوّلات متسارعة غير مسبوقة، خصوصاً خلال شهر أيلول/سبتمبر الجاري، إذ دخلت مرحلة يمكن وصفها بأنها الأكثر زخماً منذ عقود. ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى موجات الغضب الشعبي العالمي المتنامي، في ظل الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين في قطاع غزة منذ ما يقارب العامين، والتي وُصفت في العديد من التقارير الحقوقية والدولية بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.

وبفعل هذه التطورات، باتت "دولة فلسطين" اليوم تحظى باعتراف ما بين 156 و157 دولةً عضواً في الأمم المتحدة من أصل 193، أي ما يعادل نحو 81% من المجتمع الدولي. هذه النسبة لم تتحقق دفعة واحدة، بل جاءت عبر مسار طويل اتسم بتباين المواقف بين الدول، ولا سيما الغربية منها. غير أن ما يميز المستجدات الأخيرة هو انضمام دول كبرى من العالم الغربي، كانت حتى وقت قريب تتحفّظ على الاعتراف، إلى معسكر المؤيدين رسمياً لقيام دولة فلسطين.

اعترافات أيلول/سبتمبر 2025: زخم غير مسبوق

خلال أسبوع انعقاد الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، شهد العالم دفعة متلاحقة من الاعترافات التي وصفتها بعض وسائل الإعلام بأنها "تاريخية".

21 أيلول/سبتمبر 2025: أعلنت كل من المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، والبرتغال اعترافها بدولة فلسطين، وقد أثارت تلك الخطوة جدلاً كبيراً على الصعيد العالمي، فهذه الدول لطالما ارتبط موقفها بالموقف الأميركي، ولطالما امتنعت عن اتخاذ خطوة أحادية كهذه.

22 أيلول/سبتمبر 2025: جاءت المفاجأة الأكبر مع إعلان فرنسا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، في خطاب للرئيس إيمانويل ماكرون أمام الجمعية العامة. وإلى جانبها انضمت دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا، لوكسمبورغ، مالطا، أندورا، وموناكو.

23 أيلول/سبتمبر 2025: لحقت دولة سان مارينو بالركب، لتضيف بعداً رمزياً جديداً، إذ قلما تدخل الدول الصغيرة في مواقف حساسة بهذا الوضوح.

بهذا، ارتفع العدد الكلي للدول المعترفة إلى حدود 157، بما يجعل فلسطين أقرب ما تكون إلى الحصول على اعتراف دولي شامل، وإن بقي بعض الدول المهمة مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان خارج القائمة حتى الآن.

ماذا يعني هذا للفلسطينيين؟

الاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية لا تحمل بالضرورة انعكاساً مباشراً على حياة الفلسطينيين اليومية، خصوصاً في ظل استمرار الانقسام الداخلي بين السلطة الفلسطينية، تحت قيادة حركة فتح، من جهة، وفصائل سياسية أخرى على رأسها حركة حماس، من جهة أخرى؛ إضافة إلى الوضع المأسوي في قطاع غزة، حيث الحصار والدمار والضحايا لا يتأثرون بمجرد بيانات دبلوماسية أو اعترافات رسمية.

ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذه الاعترافات من زوايا عدة:

أولاً، على الصعيدين السياسي والقانوني، فإنها تُكسب القيادة الفلسطينية شرعية إضافية تتيح لها توسيع حضورها الخارجي عبر فتح ممثليات وسفارات، والانضمام إلى اتفاقيات ومنظمات دولية جديدة، بما يعزز أوراقها في الساحة الدبلوماسية.

ثانياً، تُشكّل الاعترافات عامل ضغط متدرج على "إسرائيل"، إذ تسهم في عزلها على المستوى الدولي، وتُضعف من موقعها في المحافل الأممية. ورغم تفوق "إسرائيل" عسكرياً واقتصادياً وتحالفها مع قوى كبرى، فإن تراكم هذا العزل قد يُترجم مستقبلاً إلى تضييق سياسي أو اقتصادي أو حتى قانوني، على غرار ما حدث مع أنظمة أخرى في التاريخ مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

ثالثاً، من الناحية الرمزية والمعنوية، يُمثّل انضمام دول كبرى كفرنسا وبريطانيا إلى قائمة المعترفين تحوّلاً في الخطاب الدولي، إذ لم يعد من السهل اختزال القضية الفلسطينية في صورة "نزاع إقليمي متوازن بين طرفين"، بل بات يُنظر إليها في سياق أوسع يرتبط بالعدالة وحقوق الشعوب.

الاعترافات الدوليّة بفلسطين... حتّى لا تكون حبراً على ورق؟

رغم هذا الزخم الكبير الذي يحيط بالاعترافات الدوليّة المتسارعة بفلسطين، ورغم أنّ هذا التطوّر يشكّل لحظة فارقة في تاريخ القضيّة، فإنّ الطريق لا يزال محفوفاً بالقيود والتحدّيات، فالمسافة بين الاعترافات الرمزيّة وبين تحوّلها إلى واقع سياسي ملموس على الأرض ليست قصيرة، بل تعترضها معوّقات كبرى تتعلّق بالبنية الدوليّة والواقع الميداني وأولويّات الدول نفسها.

أ- مجلس الأمن والأمم المتّحدة: لن تصبح فلسطين عضواً كامل العضويّة في الأمم المتّحدة إلّا بعد توصية من مجلس الأمن، وهنا تكمن المعضلة الأساسيّة، إذ تمتلك الولايات المتّحدة حقّ النقض (الفيتو) وتستعمله تاريخيّاً لمنع هذا المسار.

وحتى مع اعتراف 157 دولة، يمكن لواشنطن أن تُبقي فلسطين في خانة "دولة مراقب غير عضو"، كما هي الحال منذ عام 2012.

ب- الواقع الميداني: الاعترافات لا توقف الاستيطان في الضفّة الغربيّة ولا الحصار على غزّة، إذ تواصل "إسرائيل" فرض وقائع على الأرض، من مصادرة الأراضي إلى بناء المستوطنات وتقييد الحركة. وبالتالي، يبقى الفلسطينيّون محاصرين بين الشرعيّة الدوليّة الرمزيّة وحقائق الاحتلال اليوميّة.

ج- إرادة التنفيذ: كثير من الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية لا تُترجم مواقفها إلى خطوات عمليّة، مثل فرض عقوباتٍ على المستوطنات أو تعليق صفقات السلاح مع "إسرائيل". ومن دون إجراءات ملموسة، قد يبقى الاعتراف وثيقة جميلة في الأرشيف الدبلوماسي أكثر من كونه رافعة سياسيّة على الأرض.

د - اختبار المستقبل: الشهور والسنوات المقبلة ستكشف إن كان هذا الزخم سيتحوّل إلى مسار استراتيجي أم سيتبدد في ضوضاء التصريحات، ومن المفترض أن  تسعى القيادة الفلسطينية لاستثمار الاعترافات في توسيع شبكة التمثيل الدبلوماسي، ورفع قضايا أمام المحاكم الدولية، إضافة إلى محاولة بناء جبهة أوروبية– لاتينية – آسيوية للضغط على الولايات المتحدة في مجلس الأمن.

لكن، ما دامت واشنطن متمسكة باستخدام "الفيتو"، فإن سقف التوقعات الواقعية يظل محدوداً، وعندها سيظل الخطر قائماً بأن تتحوّل الاعترافات الكثيرة إلى مجرد "حبر على ورق". أي وجود قانوني واسع على المستوى الدولي، يقابله غياب أثر ملموس على حياة الفلسطينيين اليومية في القدس وغزة والضفة الغربية.

مسار الاعتراف.. الخطر الكامن وراء الزخم الدولي

الأخطر من ذلك أنّ هذا المسار يثير مخاوف عميقة من تكريس واقع جديد يقضي على أيّ إمكانيّة مستقبليّة لتحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، إذ تتحوّل الاعترافات شيئاً فشيئاً إلى غطاء دولي لترسيخ "إسرائيل" ككيان شرعي دائم في المنطقة.

فبعد أن كانت "إسرائيل"، خلال العقود الأولى من قيامها، تبحث جاهدة عن القبول بين الدول العربيّة والإسلاميّة، بات هذا القبول اليوم واقعاً لا يُناقش، بينما أصبح الفلسطينيون، أصحاب الأرض، هم من يسعون وراء الاعتراف بوجود سياسي محدود محصور في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أي على نحو خُمس مساحة فلسطين التاريخيّة فقط.

هذا التحوّل لا يعني فقط تراجع سقف المطالب الفلسطينيّة، بل يشير أيضاً إلى تبدّل في ميزان الشرعيّة، فمن صراع على وجود "إسرائيل" من الأساس إلى معركة لإثبات حقّ الفلسطينيين في كيان سياسي مُصغّر ومُهدَّد في كلّ لحظة بالانهيار تحت ضغط الاحتلال والحصار والانقسام. وهو ما يجعل الاعترافات، على أهميّتها الرمزيّة والدبلوماسيّة، عرضة لأن تتحوّل إلى ورقة تُستخدم لترسيخ الأمر الواقع بدل تغييره.

التغيّر في النظرة إلى القضية الفلسطينية، بات يرسم معالم السياسة العربية بشكل عام، فمنذ أربعة أو خمسة عقود، كانت "صفقات السلام" تُبنى على أساس انسحاب "إسرائيل" من الأراضي المُحتلة مقابل أن تمنحها الأنظمة العربية الاعتراف، وتطبّع العلاقات معها، وتتوقف عن دعم المقاومة الفلسطينية، وتخرج من دائرة التأثير الإقليمي؛ وهذا هو الأساس الذي وُقّعت عليه اتفاقية "كامب ديفيد" بين القاهرة و"تل أبيب". اليوم، انقلب المشهد 180 درجة، وباتت بعض دول الطوق التي تملك حدوداً مع "إسرائيل"، تسارع إلى تطبيع العلاقات مع حكومة نتنياهو، لا بحثاً عن تسوية عادلة أو استعادة للأراضي المحتلّة في يونيو/حزيران 1967، بل فقط لضمان ما تعدّه "أمنها الداخلي"، ومن دون أي إشارة، ولو هامشية، إلى الحقوق الفلسطينيّة.

بين الرمزية والواقع

إن الاعتراف الدولي يُشكّل محطة تاريخية تعكس تزايد قناعة عواصم العالم بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ذات سيادة. ومع ذلك، تبقى المسافة بين هذه الرمزية وتحويلها إلى تغيير فعلي على الأرض طويلة ومشحونة بعوائق سياسية وجيواستراتيجية، فمن دون إرادة دولية قادرة على مواجهة "الفيتو" الأميركي، ومن دون جرأة أوروبية في ترجمة المواقف إلى إجراءات عملية ملموسة (كفرض عقوبات أو تعليق تعاون عسكري)، ستبقى غالبية هذه الاعترافات مجرد مهرجانات خطابية ودبلوماسية.

الأخطر من ذلك أن المسار الحالي يطرح احتمالاً مزعجاً يتمثل في تقويض أي فرصة مستقبلية لتحرير فلسطين كاملة؛ ذلك أن تقبُّل المجتمع الدولي لوضع سياسي محدود يكرس واقعاً مفروضاً قد يحوّل هدف التحرير الكامل إلى ذكرى تاريخية، بينما تصبح مهمة الفلسطينيين محصورة في الحفاظ على بقايا وجود سياسي ضيق في الضفة الغربية وقطاع غزة.