معركة إنهاء الحروب
استطاعت إدارة ترامب من خلال استعراض عضلاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، دفع معظم دول العالم إلى القبول كلياً أو جزئياً بالتعامل مع المصالح الأميركية بصفتها أمراً واقعاً.
-
ترامب والحروب في المنطقة.
كان إنهاء النزاعات أحد النقاط التي تصدّرت برامج ترامب الانتخابية، رغم تشكيك الكثيرين بأنّ الرئيس الذي ينتمي إلى أقصى اليمين سيكون وفيّاً لتعهّداته، إلا أنه أصرّ على امتلاك الوصفة السحرية لإنهاء الحروب، واستعادة عظمة أميركا. تعزّزت هذه الشكوك خلال الأيام الـ 100 الأولى من عهد الإدارة الأميركية الجديدة، من خلال إعلانها الحرب التجارية على الخصوم والحلفاء، وتصريحات رئيسها فيما يتعلّق بالحرب على غزّة واليمن، والموقف من الاتفاق النووي مع إيران، مع بقاء الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية الاستثناء الوحيد.
من دون مقدّمات على الأرض بدأت إدارة ترامب بالتراجع عن مواقفها، فذهبت إلى مفاوضات غير مباشرة مع إيران بوساطة عمانية، وأعلنت التوصّل إلى وقف لإطلاق النار مع اليمن، وفتح محادثات مع حركة حماس، وأخيراً تخفيض التعرفات الجمركية وبدء حوار مع الصين.
يرى البعض أنّ الإدارة الأميركية استعادت رشدها ويعلّلون ذلك بالآثار الاقتصادية المترتّبة على الحرب الاقتصادية، والخسائر المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن الحرب في البحر الأحمر، وعدم القدرة على حسم المعركة في غزّة مما يحمّل الولايات المتحدة أعباء اقتصادية وأخلاقية على المستويين الداخلي والعالمي.
رغم واقعية هذه المبرّرات، إلّا أّن النظر إلى مجمل الأحداث من زاوية أخرى يمنحنا صورة مختلفة عن السياق الذي أدارت من خلاله الولايات المتحدة سياستها الخارجية. فمن غير المنطقي افتراض أنّ دولة عظمى مثل الولايات المتحدة تدير سياستها الخارجية على قاعدة قرارات يومية متناقضة أحياناً، وأنّ دوائر الدفاع والسياسة الخارجية لا تمتلك خطة متكاملة تضمن تحقيق سياستها التي اختصرها الرئيس ترامب بجملة واحدة "استعادة عظمة أميركا".
تعاملت إدارة ترامب مع العالم بعقليّة رجال الأعمال، الذين تزدحم بهم تلك الإدارة. كانت البداية باستعراض قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية من خلال فرض التعرفات الجمركية على معظم دول العالم، وفي الوقت نفسه إيقاف المساعدات عن الدول الفقيرة، التي تشكّل المساعدات الأميركية جزءاً مهماً من إيراداتها الاقتصادية.
أثمرت هذه السياسات عن تراجع دول أوروبا عن مواقفها المعارضة لسياسة ترامب في القضية الأوكرانية، واضطرّ زعماء بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا إلى زيارة كييف وإقناع زيلنسكي بالقبول بوقف إطلاق النار بحسب الشروط الأميركية، والتي اعتبرت أنّ ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا أمر نهائي، وأنّ على كييف القبول بالتنازل عن بعض الأراضي لروسيا.
كما أدّت سياسة ترامب إلى التوصّل إلى اتفاقيات تجارية جديدة مع كندا والمكسيك، وجلبت الصين إلى طاولة المفاوضات التجارية التي تهدف إلى تحسين الخلل في الميزان التجاري الصيني – الأميركي.
تزامنت القرارات الاقتصادية مع تصعيد على جبهات القتال في غزّة واليمن. قامت "إسرائيل"، بموافقة أميركية من دون شكّ، بتجديد حربها على غزّة، وارتكبت من المجازر ما يفوق ما فعلته في الجولة الأولى من الحرب، إذ يمكن القول إنّ الجولة الجديدة كانت موجّهة نحو استهداف المدنيين، مع التهديد بعملية عسكرية واسعة لاحتلال كامل القطاع، ترافق ذلك مع حصار إنساني أدّى إلى وصول السكان إلى شفا المجاعة.
شنّت الولايات المتحدة و"إسرائيل" عدواناً واسعاً على اليمن استهدف البنى التحتية وتسبّب في استشهاد أعداد من المدنيين، مع تهديد باستمرار العدوان حتى يوقف اليمن حصاره البحري على السفن المارة في البحر الأحمر.
لم تتدخّل الولايات المتحدة في الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان رغم أنها أحد رعاة هذا الاتفاق. تباطأت الولايات المتحدة بالتدخّل في الأزمة المتصاعدة بين الهند وباكستان حتى وصلت الأمور إلى الحرب، بل وأنذرت باندلاع حرب نووية بين الجارتين.
في هذه اللحظة استعرضت الولايات المتحدة عضلاتها السياسية، فأعلنت وقف إطلاق النار مع اليمن مقابل عدم استهداف السفن الأميركية، وتوسّطت لتحقيق وقف إطلاق نار فوري بين باكستان والهند، وفتحت حواراً غير مباشر مع حركة حماس انتهى بإطلاق سراح الأسير المزدوج الجنسية ألكسندر عيدان، مع وعود بفتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
مفتاح منطقة الشرق الأوسط كان إيران التي لا ينكر أحد أنها اللاعب الرئيسي في معظم ملفات المنطقة، لذلك لا يمكن فصل الاتفاق في اليمن والحوار مع حركة حماس عن الحوار الإيراني – الأميركي. من الواضح أنّ الحوار بين الطرفين يتجاوز حدود الاتفاق النووي ليشمل جميع الملفات التي تتقاطع فيها اهتمامات البلدين.
استطاعت إدارة ترامب من خلال استعراض عضلاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، دفع معظم دول العالم إلى القبول كلياً أو جزئياً بالتعامل مع المصالح الأميركية بصفتها أمراً واقعاً.
في هذا الطريق أهدرت آلاف الحيوات، ودمّرت بنى تحتية وعانت شعوب، لكنّ ذلك كلّه لا يقع ضمن حسابات الرأسمالية المتوحّشة التي وإن ادّعت أنها تعمل من أجل الاستقرار العالمي فإنّ ثمن هذا الاستقرار ستدفعه الشعوب المقهورة، وستذهب عوائده إلى خزائن السيد الرأسمالي.