من حكم العائلة إلى حكم الفزعة... هل انتهى حلم الدولة المدنية في سوريا؟

شهد تاريخ سوريا الحديث محاولات خجولة وقصيرة لبناء دولة وطنية جامعة، لكنها لم تدم طويلاً. اليوم، بعد سقوط نظام حكم العائلة، كان يفترض أن تكون الفرصة سانحة لإعادة التأسيس.

  • بعد السقوط: فرصة ضائعة؟
    بعد السقوط: فرصة ضائعة؟

منذ أن ارتاحت سوريا من ثقل العثمانيين الذي استمر 4 قرون، والسوريون يتأرجحون بين الحلم بالدولة المدنية وواقع مليء بالخيبات والتقلبات، من احتلال وانقلابات وتدخلات إقليمية ودولية، إلى التسلط والديكتاتورية...

كانت البدايات واعدة، حين التأم المؤتمر الوطني السوري عام 1920، وحاول الملك فيصل، رغم نشأته المحافظة في الحجاز، أن يؤسس نواة لدولة حديثة، علمانية التوجه، على الرغم من طابعها الملكي، لكن فترة حكمه القصيرة لم تمنحه القدرة على نقل ما رآه في فرنسا وبريطانيا سواء من التطور العمراني أم من الحياة السياسية.

من الاستقلال حتى الوحدة... تجارب لم تكتمل

حلم الشباب المثقف بدولة مدنية علمانية الطابع سُحق تحت سنابك خيل الاحتلال الفرنسي وعجلات مدافعه، ليبدأ فصلٌ جديدٌ من الكفاح السياسي للتخلص من الاحتلال.

انتهى هذا الكفاح عام 1946 حين استقلت سوريا عن فرنسا، ليبدأ الحلم من جديد، فحاولت النخب السياسية، التي قادت النضال ضد الاحتلال، تأسيس دولة ديمقراطية علمانية جامعة، فتم تأسيس الجمهورية السورية الأولى (نظام برلماني جمهوري) تولى فيها شكري القوتلي الرئاسة، لكنها هذه الفترة لم تكن سهلة على الدولة الوليدة، فشهدت مشاركة سوريا في حرب عام 1948 ضد "إسرائيل"، وانتهت عام 1949 ببداية فترة الانقلابات العسكرية، التي أجهضت الحلم من جديد، وحولت الدولة إلى ساحة صراع على السلطة بين العسكر.

لا شك أن مخاض ولادة دولة مدنية في سوريا بعد الاستقلال كان صعباً، من حيث الأحداث التي شهدها وتدخل العسكر في الحكم وتسلطهم عليه عبر الانقلابات، كان آخرهم أديب الشيشكلي الذي أطاحه انقلاب عسكري عام 1954، أعاد رموز الانقلاب السلطة إلى المدنيين، ومعها بدأت مرحلة عرفت بـ "ربيع الديمقراطية"، شهدت عودة الحياة البرلمانية والحكومات المدنية وتأسيس الأحزاب وحرية النشاط والعمل السياسي.

على غرار كل الفترات المضيئة في التاريخ السوري الحديث، كانت فترة "الربيع" تلك قصيرة، انتهت بالوحدة مع مصر، وتنازل الرئيس السوري شكري القوتلي عن الرئاسة لصالح الزعيم جمال عبد الناصر.

لم تكن فترة الوحدة مع مصر كما حلم السوريون وأرادوا، بل أتت محطمة لآمالهم وتطلعاتهم، ما دفعهم إلى الانقلاب على الوحدة، والانفصال بعد عامين فقط، ودخلت سوريا بعدها مرحلة من الفوضى والصراعات بين المدنيين والجيش، وأقطاب الجيش في ما بينهم، انتهت بانقلاب حزب البعث عام 1963، وبداية حكمه التي امتدت حتى 2024.

من البعث إلى العائلة

جاء حزب البعث في انقلاب عام 1963 (ثورة 8 آذار كما يسميها البعثيون) بشعارات قومية وحدوية براقة، لكنه سرعان ما انزلق نحو بناء دولة الحزب الواحد. ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 بانقلاب داخلي في الحزب، بدأ مشروع اختزال الدولة في شخص الحاكم، ثم في العائلة، حتى صار الوطن يُختصر شيئاً فشيئاً في دائرة ضيقة تُدار عبر شبكة من الولاءات والصفقات الأمنية.

تكرّس هذا المسار في ظل ما يسمى "الجبهة الوطنية التقدمية"، التي لم تكن أكثر من واجهة تجميلية لسلطة لا تقبل الشركاء. وهكذا، تحوّلت سوريا من حلم الدولة الوطنية إلى دولة تُدار كما تُدار الشركات العائلية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العائلة، ولا قرار خارج دائرة الموالين.

بعد السقوط: فرصة ضائعة؟

حين سقط نظام بشار الأسد عام 2024، تنفس السوريون الصعداء، وأطلقوا العنان لأحلامهم المؤجلة بدولة مدنية ديمقراطية. خصوصاً مع الكلمات والوعود التي سمعوها في الأيام الأولى... لكن ما لبثت تلك الأحلام أن تلاشت سريعاً، حين جرى الإمساك بمفاصل القرار من قِبل فئة واحدة تحت شعار: "من يحرر، يقرر".

قَبِلَ السوريون هذا المنطق – على مضض – على أمل أن تكون مرحلة مؤقتة تؤسس لاحقاً لدولة جامعة، وعلى افتراض صحة ما ادعاه قادة المرحلة الجديدة بأن هذه المرحلة تتطلب الانسجام بين مكوناتها لذا الأفضل أن تكون من طرف واحد. لكن الرياح أتت بما لا تشتهي سفنهم. فبدلاً من العمل على تأسيس عقد وطني جديد، يذهب بمسار نحو دولة مدنية، بدأت السلطة الجديدة تنزلق نحو منطق الطائفة إلى منطقة الجماعة واختتمتها بمنطق الفزعة والعصبية القبلية، وكأن السوريين يتطورون عكسياً، فبدل أن يطوروا أنظمة جديدة أو يختاروا من الأنظمة المتبعة في الدول الحديثة، اتجهوا نحو النظم البدائية التي انتهت مع عصور سالفة في كثير من دول العالم.

الساحل: جرس إنذار

في آذار 2025، ورغم أن العديد من السوريين لم يكونوا قد أتموا احتفالاتهم بسقوط النظام السابق بعد، اندلعت توترات في الساحل السوري، سرعان ما تحولت إلى اشتباكات ذات طابع طائفي. لم تُسارع الدولة إلى ضبط الوضع، بل بدت كمن يُدير الأزمة لا كمن يسعى إلى حلّها. 

ورغم أن من قادوا الهجوم المسلح في الساحل على قوات الأمن العام لا يتجاوزون الـ 300 مسلح في أحسن الأحوال، وكان بالإمكان إرسال قوة صغيرة من الجيش الجديد وكانت ستفي بالغرض وتقمع تحركهم، وتستأصلهم، إلا أن المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي فتحت لإطلاق النداءات الطائفية و"إعلان الجهاد" وحشد عشرات الآلاف من المقاتلين الموتورين طائفياً، وتباطأت السلطة في التحرك وكأنها تريد لما حصل أن يحصل، لا كمن يسعى إلى تدارك الوضع وحصره وتلافي آثاره.

ورغم أن الكثيرين من أبناء الساحل من الطائفة العلوية نادوا، بعد سقوط الأسد، بضرورة دعم السلطة الجديدة وعدم الوقوف في وجهها، إلا أنهم انقلبوا إلى معارضين بعد أن رأوا بأم العين أن الهجوم على الساحل جرى بخلفيات طائفية محضة لا تفرق بين البريء والمذنب، وبين المدني والمحارب، ووصل الجميع إلى الاقتناع بأن كل الطائفة مستهدفة.

السويداء... الفزعة بوجهها الفج

ثم جاءت أحداث السويداء في تموز 2025، وقبلها أحداث جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، لتكشف هشاشة الدولة الجديدة أمام ضغط "الهوية الجزئية"، وعدم قدرتها على مواجهة هذا التيار الصاعد، إن لم نقل إنها كانت تسعى إلى تأجيجه من أجل ضمان البقاء في السلطة، وكسب الدعم الطائفي من الشريحة الأوسع من السوريين.

لكن أحداث السويداء وإن كانت شهدت في بدايتها تكراراً لما حدث في الساحل، لحظة دخول قوات الجيش والأمن العام إلى المحافظة، من مجازر وتجاوزات، إلا أنها كشفت بعد التدخل الإسرائيلي بحجة "حماية الدروز" تراجعاً للسلطة واستنادها إلى بُعدٍ أكثر خطورة ورجعية وهو العشائرية والقبلية.

الكثير من المحللين والمراقبين رأوا في "فزعة" أبناء العشائر تغاضياً من طرف السلطة الجديدة، بينما رأى آخرون أنه جرى بطلب منها وتسهيل واضح، وحتى بدعم تسليحي وغيره.

لكن هذا المسار الذي اتُبع وجرى تكراره يظهر قصوراً كبيراً لدى القائمين على السلطة في سوريا، فأن تتخلى "الدولة" عن مهامها وتترك لأبنائها ومكوناتها المجتمعية أن تتضارب وتتصارع في ما بينها ويأخذ كل مكون حقه بقواه الذاتية، فهذا ضرب حقيقي لأحد أهم أساسات قيام الدولة.

أصبح خطاب العشيرة والطائفة أقوى من خطاب المواطنة. وبدلاً من أن تضع السلطة حداً للفزعات الطائفية والعشائرية، سُرّبت خطابات تشجعها، وسمعنا تعليقات من إعلاميين ومحسوبين على السلطة الجديدة تمجد وتشكر من فزع لأبناء عشيرته.

وهذا استدعى بالطبع تحشداً من الأطراف الآخرين، الذين رأوا أنهم مستهدفون كطوائف ومكونات، وتراجع أفرادها إلى حيز الطائفة، وإن كان الكثيرون معروفون بمناداتهم بالدولة الوطنية والعلمانية.

بين الدولة والقبيلة

ما تعيشه سوريا اليوم ليس فقط أزمة سياسية على شكل الدولة ووظيفتها، بل هو أزمة هوية وطنية. فالدولة الوطنية لا تُبنى على قواعد الولاء للعشيرة أو الانتماء إلى الطائفة أو المذهب، ولا على ردود الفعل الانفعالية. الدولة تُبنى على القانون، وعلى فكرة المواطنة المتساوية.

لكن ما نراه هو العكس تماماً: كلما وقعت أزمة، خرجت "الفزعة"، واستُدعيت الهويات الأولية، وتحوّل الولاء من الوطن إلى المرجعية الطائفية أو المناطقية.

دروس التاريخ

شهد تاريخ سوريا الحديث محاولات خجولة وقصيرة لبناء دولة وطنية جامعة، لكنها لم تدم طويلاً. اليوم، بعد سقوط نظام حكم العائلة، كان يفترض أن تكون الفرصة سانحة لإعادة التأسيس. لكن إن استمرت الأمور على هذا النحو من استجداء الفزعات والغرائز الطائفية، فإننا لا نسير نحو الدولة، بل نحو القبيلة.

ودولة القبيلة، كما علّمنا التاريخ، لا تُنتج تنمية ولا عدالة ولا استقراراً، بل تعيد إنتاج الصراع والانقسام. إن أردنا حقاً بناء سوريا المستقبل، فعلينا أن نختار: إما أن نكون دولة مواطنين، أو أن نظل رعايا في "دولة الفزعة".