نتنياهو ولحظة القوة الفارقة؛ كيف حوّلته إلى "براغماتي"..!

هنالك جملة من المتغيّرات والتحوّلات محورها الأساس هو شخص نتنياهو، الذي أدار الحرب على غزة على امتداد عام ونصف العام وأكثر وفق بوصلة مصالحه التي دار معها حيث تدور!

0:00
  • كيف تحوّل نتنياهو فجأة إلى شخص
    كيف تحوّل نتنياهو فجأة إلى شخص "براغماتي"؟

لا يُستبعد من باب الظنّ، وليس كلّ الظن إثم، أنّ كلّ التصريحات الإسرائيلية المتفائلة جداً التي تشير إلى تحوّلٍ لافت في موقف نتنياهو من الحرب على غزة، هي تصريحات مُضلّلة وهي مصائد استدراج للمقاومة في محاولة لطمأنتها بأنّ الدخول إلى مسار الصفقة هذه المرة مختلف وبأنّ نيّات الطرف الإسرائيلي، كما الأميركي، مختلفة هي الأخرى هذه المرة.

وبالتوازي، فإنه لا يمكننا أيضاً أن نغفل "نقطة القوة الفارقة" التي وصل إليها نتنياهو والتي لطالما سعى خلفها، من دون فائدة، في حربه المحمومة على غزة، ويبدو أنه يعيش اليوم تجلّياتها بفضل حربه القصيرة على إيران. 

فنتنياهو الذي رفض حتى الآن مجرّد الحديث عن صفقة شاملة للأسرى تُنهي الحرب، لاعتبارات سياسية تخصّ مستقبله ومصير حكومته، يتحوّل فجأة إلى شخص "براغماتي" وينقل عنه أنه "عازم على التوصّل إلى صفقة بأيّ ثمن؛ وإنّ أمام إسرائيل فرصاً سياسية نادرة وخياليّة يجب استغلالها".

ومع كلّ نشوة القوة والثقة التي يعيشها، إلّا أنّ نتنياهو لا يُسلّم أوراقه كاملةً على الطاولة، ربما حتى يطمئن إلى الخلاصات والنتائج التي قد تفضي إليها مفاعيل هذه القوة، من حيث مقدرتها على توفير ممر آمن، قابل للتحقّق، للخروج من مأزقه مع شريكي الائتلاف، سموتريتش وبن غفير، من دون الخشية من أن يُسقطا الحكومة، وهما اللذان يطالبانه برفض الصفقة واستمرار الحرب.

وكذا مأزقه مع المجتمع الإسرائيلي، بالاطمئنان لزيادة رصيده بما يتيح له الذهاب إلى صندوق الاقتراع من دون الخشية من الخسارة، خاصة إذا ما تمكّن من استعادة من تبقّى من الأسرى الإسرائيليين في إطار التسوية المطروحة! وأخيراً حربه مع الجهاز القضائي، بالاطمئنان إلى أنّ دعوة ترامب بإسقاط التهم عنه ومنحه عفواً قد تتحقّق فعلاً. 

عملياً، ستدخل الحكومة الإسرائيلية الحالية قريباً عامها الرابع، بعد أنّ ظنّ كثيرون أنها لن تصمد في ظلّ الاضطرابات التي شهدتها "إسرائيل" في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها مساعي "الانقلاب القضائي" ثم أحداث السابع من أكتوبر 2023 والحرب التي تلتها، ولا شكّ بأنّ نتنياهو يريد الوصول إلى الانتخابات مُحمّلاً بإنجازات سياسية غير مسبوقة، تفوق في أثرها اتفاقيات أبراهام التطبيعيّة. 

يبدو، وعلى خلفية "الإنجازات" الأخيرة في الحرب ضد إيران، والتطلّع إلى الانتخابات المقبلة، ورغبة الرئيس الأميركي المرتبطة بترتيبات وتسويات إقليمية يسعى إليها هو الآخر لتعزيز مكانته على الساحتين الأميركية والدولية، أنّ شيئاً ما قد تغيّر في موقف نتنياهو. فهو يُرسل رسائل مفادها أنه لن يُفوّت فرصة السلام مع الدول السنية، وفي مقدّمتها السعودية، وربما ترتيبات أمنية مع سوريا ولبنان.

لكن من الواضح للجميع أنه للمضي قدماً، يجب الحديث عن "ضرورة طيّ ملف حرب غزة بعد إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة وضمان ألّا تكون حماس صاحبة السيادة في قطاع غزة بعد الحرب".

ومع أن خيار الصفقة الشاملة لاستعادة الأسرى جميعاً مرة واحدة مقابل تعهّد إسرائيلي وضمان أميركي بنهاية الحرب طُرح من قبل حماس، وأظنه ما زال، مضافاً إليه إعلان الحركة أنها مُستعدّة للتنازل عن حكم القطاع بعد الحرب، إلّا أنّ نتنياهو تمسّك بفكرة الصفقة الجزئية التي تمنحه ضمانة أن لا يُسقط خيار العودة للحرب مجدّداً في حال تغيّرت مؤشّرات تصاعد أسهمه وتعثّرت المساعي لمنحه عفواً، أو شعر في لحظة ما خلال فترة الهدنة بأنه لن يستطيع، وفق المعطيات المتوفّرة حينها، الذهاب إلى صندوق الاقتراع والفوز في الانتخابات.

في كلّ الأحوال، يبدو اليوم جلياً بأنّ هنالك جملة من المتغيّرات والتحوّلات محورها الأساس هو شخص نتنياهو، الذي أدار الحرب على امتداد عام ونصف العام وأكثر وفق بوصلة مصالحه التي دار معها حيث تدور، ولا نشكّ بأنّ هذه المتغيّرات هي التي تتيح لنتنياهو بأن يبدو برغماتياً ساعياً لانتهاز الفرص التي عُرضت عليه فيما مضى لكنه أدار ظهره لها! 

سياسياً، يدرك نتنياهو أنّ شريكيه المتطرّفين، وعلى الأخصّ بن غفير، الذي سبق أن عارض صفقات التبادل مرتين، سيعارضها هذه المرة أيضاً، مع امتناعه حتى اللحظة عن التهديد بالانسحاب من الحكومة أو تفكيك الائتلاف بسبب الصفقة التي يبدو بأنها تحظى بأغلبية في الكنيست وفي الحكومة من دون بن غفير وحزبه.

وحتى لو افترضنا جدلاً إمكان انهيار حكومة نتنياهو بسبب المواقف المتشدّدة لبن غفير وسمترتيتش، فإنّ "إسرائيل" على وشك الدخول في عام انتخابي على أيّ حال، ونتنياهو عملياً يخوض بالفعل حملة انتخابية، وهو واثق من أنه سيحقّق إنجازاً كبيراً لحزب الليكود بما يضمن له العودة لرئاسة الحكومة مجدداً، خاصة مع ازدياد قوته وتقدّمه على خصومه وفق استطلاعات الرأي، ورغبته في أن يستثمر "بريق الورقة الإيرانية" قبل أن تفقد وهجها وتتأكّل قيمتها في الشارع الإسرائيلي خاصة مع عودة الاحتجاجات والانتقادات بسب الحرب على غزة.

علاوة على ذلك، فإنّ دعوة الرئيس الأميركي ترامب الإسرائيليين إلى ضرورة إسقاط التهم المنسوبة إلى نتنياهو ما زالت تتفاعل في الداخل الإسرائيلي، حيث يطمح نتنياهو أن تُترجم هذه الدعوة بحصوله على العفو. ولا يخفى أنّ ترامب المُضطلع على دوافع نتنياهو الحقيقية من استمرار الحرب على غزة، يريد أن يحرّره من قيود المحاكمة وثقلها عليه حتى يسمح له بمزيد من الحركة والمناورة في موضوع وقف الحرب، وربما بمَنحِهِ القدرة على التعاطي مع ما تريده الإدارة الأميركية في هذه المرحلة من استثمارٍ لما يسمّيه الطرفان "إنجازات كبيرة ضد إيران".

وهذا يقودنا إلى المُتغيّر الأهمّ الذي يلوح أمام نتنياهو في مقابل التخلّي عن سردية "الحرب المفتوحة" على غزة والمتعلّق بالتطبيع مع السعودية، وعلى الأرجح لن يمانع نتنياهو، في إطار "تسوية إقليمية" شاملة، صُدور "صيغة أميركية غامضة حول الدولة الفلسطينية"، تُدخل الفلسطينيين والعرب مجدّداً في سردابٍ مُظلم يطول انتظار رؤية بصيص نور في نهايته، في مقابل التطبيع والترتيبات الأمنية، فيما يجري فعلياً استرضاء شركاء نتنياهو المتطرفين بموافقة أميركية علنية على ضمّ الضفة الغربية أو أجزاء منها، مقابل عدم اتخاذ خطواتٍ من شأنها أن تقوّض سلامة الائتلاف الحاكم ولو مؤقتاً.

يعوّل نتنياهو على أنّ السعودية "مستعدٌّة لتقبّل مثل هذه المقاربة، في ضوء إنجازات الولايات المتحدة و"إسرائيل" ضدّ إيران، حيث تقلّ حاجتها، أيّ السعودية، إلى اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة، وفي كلّ الأحوال من غير المرجّح أن تحصل على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ الأميركي". 

ولا يبدو بأنّ سقف طموح نتنياهو يقف عند هذا، فعلى الأرجح سيعرض في اجتماعه بترامب في البيت الأبيض الأسبوع المقبل، مشاريع إقليمية طموحة، مثل "خط أنابيب النفط من السعودية إلى إسرائيل"، ومن هناك إلى أوروبا عبر البحر المتوسط"، ناهيك عن توقيع اتفاقية أمنية مع سوريا، تراها "إسرائيل" حيوية لقطع الطريق على "أطماع إردوغان في سوريا"، وهي تتوقّع من الولايات المتحدة "أن تمنع أنقرة من إنشاء قواعد في قلب جارتها الشمالية" سوريا. 

كما من المتوقّع أن يُصرّ نتنياهو على الحفاظ على التفوّق الجوي لـ "الجيش" الإسرائيلي في حال حصول تركيا على طائرات أف-35، بالمطالبة بالحصول على قاذفات بي-2 الأميركية رغم تكلفتها الباهظة التي تبلغ نحو مليار دولار، لكنها "لا تقاس أمام امتلاك إسرائيل مثل هذه القدرة الاستراتيجية التي ستُغيّر قواعد اللعبة والردع في المنطقة".

يقود نتنياهو اليوم خطاباً مفاده أنّ هناك "فرصة تاريخية لن تتكرّر وأنّ على إسرائيل أن تستثمرها"، لكنّ واقع الأمر أنه يطمح في نهاية المطاف إلى مزيدٍ من أوراق القوة بين يديه يسوّقها كإنجازات تتيح له العودة إلى الحياة السياسية من بوابة صندوق الاقتراع، وربما الحصول على العفو، عندها ليس من المستبعد اعتزال نتنياهو الحياة السياسية في ذروة قوته، بعد اتفاق مع السعودية وسوريا وعودة الأسرى، وانتهاء الحرب في غزة وفق ترتيبات تصرّ "إسرائيل" عليها، ومن غير المستبعد أن يتخذ الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ إجراءً بشأن العفو في ظلّ ظروف معيّنة تُمهّد الطريق أمام نتنياهو للاعتزال بعد أن يضمن أنه سيُخلّد بطلاً وربما "ملك ملوك إسرائيل" وفق ما يحلو لأنصاره توصيفه.