نيجيريا بين الإنجليزية والهوسا: صراع الهوية والسيادة

التحدي الحقيقي أمام نيجيريا اليوم يتمثل في تعزيز الهوية الوطنية، وتحصين السيادة الثقافية والحضارية في بعديها اللغوي والمعرفي، وفي بناء مكانة إقليمية تعمتد على اللغة الوطنية.

0:00
  • اللغة كجذر للهوية وأداة للتماسك الوطني.
    اللغة كجذر للهوية وأداة للتماسك الوطني.

أثارت الحكومة النيجيرية الأسبوع الماضي جدلاً واسعاً بإلغاء سياسة استخدام اللغات الوطنية في التعليم، وإعادة اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة رسمية للتعليم في جميع مراحله الدراسية.

وفي تصريح له، قال تونجي ألاوسا، وزير التعليم: "إن اعتماد اللغات الوطنية لم يحقق النتائج المرجوة بعد ثلاثة أعوام من التجربة، وستكون الإنجليزية هي لغة التعليم في نيجيريا".

ليست نيجيريا وحدها من اختارت هذا المسار؛ فقد سبقتها دول أخرى اتخذت قرارات مماثلة، غير أن استخدام اللغة الإنجليزية في التعليم لا يعد مجرد خيار لغوي؛ بل يحمل أبعاداً حضارية وثقافية وسيادية وتربوية عميقة. فهو يمس الهوية الوطنية، ويحدد مستقبل التعليم، ويشكل معايير السيادة المعرفية للدولة، ما يجعله قراراً استراتيجياً يتجاوز نطاق الفصول الدراسية إلى قلب الحياة الوطنية وجوهرها.

اللغة كجذر للهوية وأداة للتماسك الوطني

لم تكن اللغة يوماً وسيلة للتواصل وحسب، بل هي مستودع للذاكرة، وأداة لنقل القيم والتعبير عنها، وهي أداة من أدوات الفهم والتفكير. ونيجيريا دولة غنية بلغاتها المحلية. وبحكم أن أغلب سكانها من المسلمين، فإن اللغة العربية حاضرة في عبادات السكان وفي تعليم القرآن، وهي بذلك حاضرة في وجدان الشعب، بيد أن لغة الهوسا ولغتي الإيبو واليوروبا تتسيد المشهد اللغوي في هذه الدولة الأفريقية المسلمة، وتمثل هذه اللغات حواضن للتراث الشعبي والقيم الأخلاقية والفنون الشفوية التي شكلت الشخصية النيجيرية عبر التاريخ.

دخلت اللغة الإنجليزية نيجيريا عبر الاحتلال البريطاني الذي فرضها لغة رسمية للدولة، ورسّخها لغة للتعليم ليعزز حالة الاستلاب الثقافي والقابلية للاستعمار، وليكرس نمط التبعية الثقافية والسياسية، وحين فرضها لغة للتعليم أراد أن يسلب من الأطفال والناشئة حقهم الطبيعي في التمسك بهويتهم الوطنية، ويفقدهم الثقة في الانتماء إلى بيئتهم ومرجعياتهم الوطنية.

تشير تجارب أفريقية وعالمية إلى أن إقصاء اللغات الوطنية من التعليم يمثل استهدافاً لها نتيجته الموت البطيء، وقد فقدت شعوب كثيرة لغاتها حين اعتمدت لغات أخرى في التعليم، وفقدت رصيداً من تراثها، وشكل ذلك خسارة حضارية لا يمكن تعويضها.

واللغات الوطنية في نيجيريا، وبخاصة لغة الهوسا هي لغة إقليمية واسعة الحضور يمتد نطاقها من نيجيريا إلى النيجر إلى مالي والكاميرون وأجزاء أخرى في وسط وغرب وشمال أفريقيا، وتستخدم في التعليم والإعلام والتوعية والاقتصاد، وتستخدمها الطرق الصوفية وبخاصة الطريقة التيجيانية لغة رئيسة في إيصال رسالتها في تلك الدول. 

والهوسا بهذا الانتشار الواسع تمثل فضاءً حضارياً في القارة السمراء، لهذا فإن إقصاءها من العملية التعليمية يشكل بداية جديدة للحؤول دون اعتمادها ركيزة من ركائز الهوية الوطنية، ومن ثم لغة وطنية أولى في التعليم وفي معاملات الدولة ومراسلاتها، وهي مقدمة لحرمان الإقليم دوراً محورياً يمكن أن تضطلع به هذه اللغة في صوغ مشهد حضاري يوحد هذا الإقليم على لسان واحد كما فعلت السواحيلية في تنزانيا، والأمهرية في إثيوبيا.

اللغة كأساس للوعي والتعلم والتفكير

في تعليق له على قرار الحكومة إلغاء استخدام اللغات الوطنية في التعليم واعتماد الإنجليزية بديلاً لها، قال وزير التعليم السابق أدامو أدامو: " إن التلاميذ يستوعبون المفاهيم بسهولة أكبر عند التدريس بلغتهم، وإن استخدام اللغة الأم في التعليم يضمن فاعلية تعليمية أكبر، وإن ثلاث سنوات ليست كافية للحكم على هذه التجربة بالفشل".

وعارض تربويون آخرون قرار الحكومة وعدّوه قراراً متسرعاً لم يلحظ خلاصة الدراسات التي أجريت بشأن اعتماد اللغات الأصلية في التعليم، وبخاصة تلك التي دعمتها الأمم المتحدة حول تعليم الطفولة المبكرة، وأشار محلل الشؤون الاجتماعية هابو داودا إلى أن ثلاث سنوات مدة قصيرة جداً للحكم على تحول كبير كهذا، وقال: "يتعين على الحكومة أن تزيد من استثماراتها في التعليم باللغات المحلية الوطنية لا أن تلغي التجربة بهذه الطريقة".

إن اللغة هي حجر الأساس في بناء الوعي في سنوات العمر الأولى، وهي أحد أهم العوامل المؤثرة في معدلات الاستيعاب والتسرب المدرسي، والعدالة التعليمية بين المناطق الحضرية والريفية.

التعليم باللغة الأم يعزز الاستيعاب والتفكير، إذ تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن الطفل يفهم ويفكر بعمق عندما يتعلم بلغته الأم. والتعليم بلغة أجنبية قبل اكتمال بنيته المعرفية يؤدي إلى فهم سطحي، ويضع الطالب في موقع ضعف في اكتساب المعرفة الأساسية.

فشل تجربة التدريس باللغات المحلية لا يعود إلى النموذج نفسه، بل إلى ضعف التنفيذ، ونقص الموارد المخصصة للكتب، والتدريب الكافي للمعلمين، وغياب المواد التعليمية المناسبة. وعودة الإنجليزية تزيد من تعميق الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، إذ يكون الأطفال في المدن أكثر قدرة على استيعاب المحتوى مقارنة بأطفال الريف الذين لم يتعرضوا للغة الأجنبية، ما يزيد من التفاوت التعليمي. كما أن فرض لغة أجنبية قبل اكتمال القدرة على التفكير باللغة الأصلية يؤدي إلى ضعف في القراءة التحليلية، والكتابة، والتعبير لاحقاً، ما يؤثر سلباً على التأسيس المعرفي للأطفال.

الأمن اللغوي والسيادة الثقافية

السياسة اللغوية هي تعبير عن هوية الدولة وسيادتها، وهي كذلك جزء رئيس من مقوّمات الأمن القومي للدول. واللغة هي من يحدد هوية المعرفة ولغة مؤسسات الدولة وطبيعة العلاقة مع العالم الخارجي. واللغات ليست عنصراً ثقافياً فحسب، بل هي عنصر قوة وسيادة. لهذا على الحكومات والشعوب الانتباه إلى ما يلي:

- هيمنة اللغة الإنجليزية تُنتج تبعية معرفية؛ وعندما تصبح الإنجليزية لغة إنتاج رئيسة للمعرفة القائمة على المناهج الغربية والسوق اللغوية الدولية، سيؤثر ذلك سلباً على استقلالها المعرفي. 

- اللغة الوطنية عامل مركزي في الأمن القومي، إذ تمتلك الدول ذات اللغة الجامعة، قدرة أعلى على بناء خطاب وطني موحد وإدارة تعليم مستقل، وهذا ما حدث في إثيوبيا التي اعتمدت الأمهرية وتنزانيا التي اعتمدت السواحيلية.

- غياب لغة محلية قوية في النظام التعليمي يجعل الثقافة الوطنية أكثر هشاشة في مواجهة ثقافة العولمة الإنجليزية. بينما اعتماد لغة وطنية مثل الهوسا يدعم الدور الإقليمي لنيجيريا، فهي لغة يتحدث بها الملايين خارج نيجيريا، وتوفر فرصة لنفوذ ثقافي إقليمي يعزز القيادة النيجيرية في وسط وغرب أفريقيا.

لكل ما سبق، يمكن لنيجيريا اعتماد الهوسا لغة وطنية، واللغتين العربية والإنجليزية لغتين رسميتين بعد الهوسا؛ وسيعزز ذلك الهوية الحضارية لنيجيريا التي يعتنق غالبية سكانها الإسلام، ويتعلم أطفالها القرآن في بواكير الطفولة، كما سيمكنها من رؤية لغوية متوازنة تحقق لها:

- وحدة لغوية وطنية

- حماية اللغات المحلية الأخرى

- تعزيز الهوية الثقافية

- دعم نفوذ نيجيريا الإقليمي

إن الهوسا اليوم تمتلك رصيداً ضخماً من الأدب الشفهي، والشعر، والموسيقى، والدراسات الإسلامية، ما يؤهلها لتعزيز قدرتها على المنافسة المعرفية. وفي المقابل، فإن الإنجليزية، رغم قوتها، تعاني من فجوة اجتماعية تجعلها لغة النخبة مقارنة بالهوسا التي تُعدّ لغة الشعب.

إن التحدي الحقيقي أمام نيجيريا اليوم يتمثل في تعزيز الهوية الوطنية، وتحصين السيادة الثقافية والحضارية في بعديها اللغوي والمعرفي، وفي بناء مكانة إقليمية تعمتد على اللغة الوطنية، وفي تأسيس دور محوري يُعلي من مكانتها الإقليمية والدولية في سياق بناء نموذج أفريقي جديد ورائد.