هل نجح سماحة السيد في تجنيب المدنيين ويلات الحرب؟
في ذكرى استشهاد السيد نتلمس عبر ميادين جهاده هذه البصمة الأخلاقية في مردودها السياسي والديني، لنقترب في محاولة فهم سياقه الفكري والنفسي.
-
نجحت إدارة السيد حسن نصر الله في معركة إسناد غزة.
كثيرة هي دروس العام الأول على ارتقاء سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه، ولعل من أبلغ هذه الدروس تلك البصمة الأخلاقية التي أورثها سماحته في الخط الجهادي الذي حفرته سياسة تجنيب المدنيين ويلات الحرب، في سابقة خلدتها ذاكرة النضال الثوري عبر التاريخ، بطريقة أرسى فيها قواعد اشتباك كادت أن تحصر نتائج الوحشية الإسرائيلية في أضيق نطاق مستطاع، وهو نطاق المقاومين وحواضنهم الشعبية، ما جنّب لبنان وبناه التحتية وطوائفه المختلفة دفع ضريبة العمليات اليومية للمقاومة، منذ الثامن من أكتوبر 2023 حتى استشهاده، في تكريس لهذا المبدأ ولو بثمن باهظ التكلفة في جمهور حزب الله وكوادره وقادته وعلى رأسهم شخص الأمين العام، افتداء كل الطيف اللبناني الواسع في نصرة غزة ومظلوميتها التاريخية.
تجلى حرص سماحته في تجنيب الشعب اللبناني ويلات الحرب، مع تصديه لواجب نصرة غزة وإسناد مقاومتها، في توازن حافظ عليه خلال الأداء القتالي طوال شهور الإسناد حتى ارتقائه، ولعل ذلك وحده ما يفسر طريقة مشاركة حزب الله في التوسيع التدريجي الحذر لنطاق الإسناد عبر مبدأ ثابت وآليات متحركة، وقد ظهر هذا الثبات في التزاوج بين الإسناد واحتواء الأضرار، ضمن محركات دحرجة كرة النار في عمق الكيان وفق متطلبات الميدان ومستوى تصاعد الجرائم الإسرائيلية.
مبدأ الإسناد مع محاولة احتواء ردة الفعل؛ وهو المبدأ الذي التزم به سماحته حتى وهو يشاهد عمق الضرر في استهداف المقاومين في الجبهة الأمامية ثم في قيادة الرضوان حتى لحظة ارتقائه، وإلا ما الذي جعل سماحته يحافظ على ذات الأداء رغم توسع دائرة الاغتيالات في صفوف حزب الله؟ وكيف انضبط الأداء القتالي لحزب الله في استهداف القواعد العسكرية والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية حتى بعد كثير من عمليات الطيش الهمجي الإسرائيلي بحق حواضن المقاومة الشعبية؟
إن الوقوف عند هذا الدرس التاريخي الأخلاقي، في تجنيب الشعب ويلات الحرب مع الإصرار على القتال وفق أداء محسوب، هو التفسير الأقرب لفهم الطريقة التي كان يدير فيها سماحة السيد وإخوانه معركة الإسناد، وقد نجحوا في ذلك بما يتجاوز قصور الفهم عند كثير من الدارسين الذين اعتبروا خسارة روح السيد وإخوانه نصراً كاملاً لـ"إسرائيل"، في تجاهل تام أن هذه الإدارة وإن فشلت في حماية أرواح القادة وكثير من المقاومين، وهو نجاح هام وخطير للإسرائيلي ومن خلفه الأميركي بلا شك، إلا أنها عصمت دماء عشرات الآلاف من اللبنانيين الذين كان يمكن للهمجية الإسرائيلية أن تقتلهم عبر نموذج الإبادة الجماعية في غزة، فلكل جبهة ميدانها وطريقة خاصة في إدارتها، وهو الجهد الذي أفلحت به إدارة السيد للمعركة.
تمنى كثير من الناس الصادقين أن يصدر سماحته أمر الحرب الشاملة بعد السابع من أكتوبر مباشرة، وفي هذا التمني تعبير صادق ومحق عن مستوى ثقتهم في قيادة السيد لمشروع المقاومة على مستوى المنطقة برمتها، وتعبير عن غضب الشعوب المغلوبة على أمرها وهي تشاهد الذبح المتعاظم في غزة، في وقت رأى فيه سماحته أن هذه معركة طويلة لا يمكن النصر فيها بالضربة القاضية إنما هي حصيلة تراكمية بالنقاط.
حقن الدماء؛ ظل عنوان الفعل الميداني محسوباً بهذه النقاط التي كان يرصدها سماحته بحذر وانتباه، حتى بعد اغتيال القائد صالح العاروري كما بعد اغتيال القائد فؤاد شكر، وهي نقاط حفظت قواعد اشتباك عسكري وأمني، وإن تفوق فيها الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي في نوعية الضربات وقد بلغت الذروة باغتيال السيد، لكنها هي ذات القواعد التي حقنت دماء الآلاف من الناس الطيبين، وحتى عندما كان الإسرائيلي يخرق هذه القواعد فإن حاضنة المقاومة المباشرة وحدها كانت توسع صدرها لاحتضان الوجع ونزف الدم، فهل قدّر الطيف اللبناني الذي لم يتأذَّ في ذلك للقائد المضحي وحاضنته المظلومة هذا الحرص التاريخي غير المسبوق؟
نجحت إدارة السيد حسن نصر الله في معركة إسناد غزة، في تجاوز واحدة من القضايا المستعصية في عالم الحروب والمواجهات؛ وهي الفتك بالمدنيين وتدمير البنى التحتية، خاصة أنها جاءت عقب السابع من أكتوبر والهياج الإسرائيلي المعزز أميركياً وغربياً، وكانت الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 قد حصدت من أرواح اللبنانيين حوالي 1900 شهيد في مجازر متوالية طوال 34 يوماً من القتال، فيما بلغ عدد الضحايا اللبنانيين طوال معركة الإسناد على امتداد ما يقارب سنة كاملة حتى ارتقاء سماحته، حوالي 1640 شهيداً، وإن ارتفع هذا العدد بعد ارتقاء السيد، ودخول حزب الله معركة البأس الشديد طوال شهرين حتى بلغ 3800 شهيد، وهي كلفة بشرية باهظة بالتأكيد، ولكنها في عالم الإجرام الإسرائيلي ما بعد السابع من أكتوبر، لم تروِ ظمأ المجرمين في تل أبيب وواشنطن وعواصم الغرب، وقد طال أمدها لحوالى أربعة عشر شهراً من القتال اليومي من دون انقطاع، وهو قتال تدحرج بالقصف حتى عمق تل أبيب ووصل حتى غرفة نوم نتنياهو في قيسارية، بعد أن أفرغ شمال فلسطين من المستوطنين بشكل شبه كلي.
عند المقارنة بين الكلفة البشرية ودمار البنى التحتية اللبنانية بين حرب 2006 من جهة، وبين معركة الإسناد والبأس، مع الفارق الزمني الكبير في الأخيرة، ثم تطور أدوات البطش الإسرائيلي خاصة استخدام طائرة F 35 وقدرتها التدميرية الهائلة، مع حجم القنابل الأميركية الهائل بعشرات الأطنان، ما يعطينا مؤشراً نوعياً في نجاح احتواء المقاومة لشهية الإجرام الإسرائيلية، وقد اعتادت المجازر الدموية بحق المدنيين، وإن دفع سماحة السيد وقادة حزب الله وحواضنه الثمن من دون ندم.
في ذكرى استشهاد السيد نتلمس عبر ميادين جهاده هذه البصمة الأخلاقية في مردودها السياسي والديني، لنقترب في محاولة فهم سياقه الفكري والنفسي، وهو أكثر من غيره كان يعي حقيقة المتربصين به وبالمقاومة وحواضنها، وهي الحواضن الشعبية التي خسرت كثيراً من أبنائها المقاومين في جنوب لبنان، كما خسرت بيوتها في وقت يتهرب فيه النظام الحاكم في بيروت من استحقاق إعمار هذه البيوت، في تنكر صريح للمبدأ الأخلاقي الذي دفع فيه هؤلاء ومعهم قائدهم الروح والمهج فداء للبنان وغزة، في وقت كان يمكن للمقاومة أن تقاتل هذا العدو المجرم من دون حسابات، بما قد يترتب على هذا القتال من تعرض كل أنحاء لبنان وبناه التحتية للقصف، لا فقط المناطق التي اختصها حزب الله ميداناً للقتال، ولكنها فضّلت حماية الكل الوطني وإن على حسابها الدموي المؤلم.
قيم الشهامة وحقن الدماء وصيانة النسيج الوطني والطائفي من العبث؛ تعكس في مجملها ثقافة السيد حسن نصر الله، التي تجسدت أفعالاً في لحظات تاريخية حرجة، وهو يواجه أقسى الأوقات بعد اغتيال قادة الرضوان وتفجيرات البيجر، حافظ على رباطة جأشه وصلابة المبدأ الأساس في حقن الدماء ما استطاع، ولم يلتفت إلى شماتة المرجفين في الداخل، وإن لم يكونوا يستحقون ذلك وهم يشهرون خناجرهم في ظهر البقية الطاهرة، وكان بإمكان سماحته تغيير خريطة القتال ليدفع الجميع نحو تحمل مسؤولياته، ولكنه آثر الغرم وحده، وليكن الغُنم من نصيب الجميع.
إن تنكر أعداء المقاومة في لبنان لشهامة السيد الشهيد وحرصه على تجنيبهم آثار ويلات الحرب طوال أربعة عشر شهر، ربما بات يفرض على قيادة حزب الله حالياً تنوعاً في الأداء الميداني، خاصة مع الخضوع الرسمي اللبناني للإملاءات الإسرائيلية الأميركية بشأن سلاح المقاومة، وهو ما ظهر في تحذيرات سماحة الشيخ نعيم قاسم لهؤلاء المتربصين، وقد وجب على من فهم الشهامة ضعفاً أن يستفيق، لأن لبنان ينهض بكل طوائفه وقواه ومحيطه، لا برفاهية البعض على حساب الأكثرية من المستضعفين.