واشنطن تُهندس الشرق… وغزة تكتب الجغرافيا من جديد

غزة - بكل ما تمثله من إرادة ودم وصمود ومخزون تاريخي - فعلت ما هو أبعد من المقاومة: أعادت تعريف القوة نفسها. ولأول مرة منذ قرن، تتجاور خريطتان لا تلتقيان: خريطة تُرسم في واشنطن… وأخرى تُكتب في غزة.

0:00
  • غزة تكتب الجغرافيا من جديد.
    غزة تكتب الجغرافيا من جديد.

هناك لحظات في تاريخ الإقليم لا يمكن التعامل معها كبنية تحليلية فقط، بل كاهتزاز جيولوجي يعيد تشكيل ما فوق الأرض وما تحتها معًا. نحن اليوم أمام واحدة من تلك اللحظات.

الولايات المتحدة تحاول، مرة أخرى، إعادة هندسة الشرق على مقاس مصالحها ومصالح ربيبتها الطاغية، والكيان الصهيوني يستميت لاستعادة ما فقده من هيبة ردعية، وتركيا تتمدد في فراغات الخرائط، والرياض تُدفَع إلى موقع "الركيزة العربية" ضمن معادلة تريدها واشنطن قدرًا لا يُردّ.

لكن غزة - بكل ما تمثله من إرادة ودم وصمود ومخزون تاريخي - فعلت ما هو أبعد من المقاومة: أعادت تعريف القوة نفسها.

ولأول مرة منذ قرن، تتجاور خريطتان لا تلتقيان: خريطة تُرسم في واشنطن… وأخرى تُكتب في غزة.

خرائط تُصنع على الورق… وتنهار في الميدان

ليس جديدًا أن تنظر مراكز التفكير الغربية إلى الشرق الأوسط كلوحة مفككة يمكن إعادة جمعها عند الحاجة.

لكن الجديد هو الجرأة الفاقعة التي ظهرت في تقارير راند، معهد واشنطن، مجلس الأطلسي، وكتابات فورين أفيرز، التي تتحدث عن "شرق جديد" يقوم على:

- الكيان الصهيوني مركزه ونواته الصلبة.

- تركيا ذراعه السياسية والعسكرية.

- الخليج مصدر تمويله وشرعيته.

- الفلسطيني هامش يُراد له أن يتوارى خلف مشاريع "السلام الاقتصادي".

هذه ليست "خرائط تطوير"، بل خرائط خوف.. خوف من تآكل الردع الصهيوني، خوف من انفراط عقد الهيمنة الأميركية، خوف من صعود شعوب ترفض الموت في الصمت.

ما تجاهله العقل الاستعماري أن الشعوب ليست فراغًا هندسيًا، وأن الجغرافيا التي لا تمر عبر الناس تنهار عند أول اختبار. وهكذا جاءت غزة - لا لترد على الخرائط - بل لتمزّقها.

الرياض في هندسة واشنطن: شراكة أم قفص ذهبي؟

من هذه الزاوية، يجب قراءة زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن.

فالولايات المتحدة، بعد أكثر من عامين من العجز الفاضح في غزة، كانت بحاجة إلى ما يرمم صورتها ويعيد لها كمًّا من الهيبة المفقودة، فجاء الإعلان:

- تصنيف السعودية حليفًا رئيسيًا من خارج الحلف.

- اتفاقية دفاع تربط الاستراتيجية السعودية بعقدٍ كامل.

- إدماج الرياض في منظومة ردع تقودها تل أبيب.

- استثمارات سعودية هائلة داخل اقتصاد أميركي مُنهك.

- الحديث عن إدخال مقاتلات متطورة لإكمال "هندسة الأمن الإقليمي".

هذه ليست مجرد شراكات؛ إنها إعادة اصطفاف تُراد لها أن تجعل الرياض ضلعًا ثالثًا في مثلث النفوذ الأميركي بعد الكيان الصهيوني وتركيا.

لكن واشنطن ترتكب خطأً قاتلًا:

هي تتعامل مع السعودية كما لو أنها دولة بلا ذاكرة ولا طموح.

بينما المملكة - رغم كل اختلافاتنا معها - ليست كتلة صمّاء، ولا لاعبًا يقبل بأن يُختصر في وظيفة ضمن هندسة تُدار من فوق.

وهذا التناقض بين "طموح سعودي" و"احتواء أميركي" سيظل أحد أكبر مفاتيح المشهد في السنوات المقبلة.

مشروع ترامب: كتابة نهاية بلا شعب

ما دفعه ترامب إلى مجلس الأمن لم يكن مشروع سلام؛ فقد تحولت الوثيقة إلى قرار دولي (2803) تحت مسمى "خطة السلام الأميركية في غزة".

والحقيقة أنها ليست خطة سلام… بل خطة إلغاء وجود.

فالمادة الجوهرية ليست ما تقدمه للفلسطيني، بل ما تنزعه منه: 

لا سيادة ...لا حدود... لا جيش... أمن مفتوح للعدو بلا سقف... و"اقتصاد" يُطرح كرشوة سياسية لإسكات التاريخ.

إنها "أوسلو" في نسختها العارية: بلا غطاء… بلا مواربة… وبلا خجل.

لكن الأخطر أنها لا تعترف بواقع ما بعد طوفان الأقصى.

كأن عامين ونيفاً من الدم والدمار والصمود لم يغيّروا شيئًا، وكأن غزة لم تنسف ما يسمى "قواعد الاشتباك" و"الردع الإسرائيلي".

واشنطن تتصرف كنظام يريد كتابة نهاية الرواية، بينما أبطالها - أهل الأرض - ما زالوا يقاتلون على المسرح.

مشروعان يتنازعان روح الشرق

في قلب المشهد، ليس مجرد صراع قوى، بل صراع رؤيتين تتنازعان روح الشرق ومستقبله:

رؤية تُدار من فوق، بعقل إمبراطوري يظن أن الخرائط تُرسم كما تُرتّب المكاتب.

ورؤية تُولد من تحت، من نبض الشعوب ومن إرادة لم تعد قابلة للكسر أو التهميش.

الأول مشروعٌ فوقي، تحركه حسابات الأمن الأميركي وضرورات الهيمنة، يريد شرقًا مطواعًا تُعاد صياغته بما يخدم الردع الصهيوني والتمدد التركي واحتياجات واشنطن الاستراتيجية.

أما الثاني، فهو مشروع شعبي خالص، يولد في الأزقة المهدّمة وفي خطوط المواجهة، حيث تنشأ شرعية جديدة قوامها الدم والصمود والإصرار على أن الشرق لا يُكتب من خارج أهله.

بهذا يصبح الاشتباك الراهن أكبر من سياسة وأكثر من جغرافيا: إنه صراع على من يملك حق تعريف الشرق… ومن يملك روحه.

من هامش مُحاصر إلى مركز الثقل

لم تكن غزة يومًا في قلب حسابات القوى الكبرى؛ أرادوها هامشًا يمكن تطويقه، وملفًا إنسانيًا يمكن احتواؤه، ومساحة صغيرة خارج هندسة الإقليم.

لكن الهامش، حين يتشبّع بالدم والإصرار، يتحول إلى مركز ثقل يعيد ضبط الموازين.

طوال العامين الماضيين، فعلت غزة ما لم تفعله الجيوش النظامية منذ عقود، حيث أعادت تعريف الردع، وكشفت هشاشة المنظومة الأمنية الصهيونية، ودفعت واشنطن - ومعها العواصم الإقليمية - إلى إعادة النظر في خرائط كانت تُعامل كحقائق ثابتة.

لم تعد غزة "الملف" الذي ينتظر تسويات الآخرين، بل أصبحت النقطة التي تُختبر عندها قوة المشاريع وضعفها.

ومن بين الركام، خرجت لتفرض وجودها كفاعل جيوبوليتيكي لا يمكن تجاوزه، وتحوّلت من مساحة محاصرة إلى محورٍ تُعاد عنده كتابة الجغرافيا السياسية للشرق.

بهذا المعنى، لم تصنع غزة حدثًا فحسب؛ بل صنعت ميزانًا جديدًا تقاس عليه قدرة القوى على الفعل… وحدودها.

الشرق الذي يصنعه ميزان الإرادة لا ميزان القوة

في الحساب الختامي، ليست الخرائط التي تضعها واشنطن هي التي تعيد تشكيل الشرق، ولا التحالفات التي ترسمها تل أبيب وأنقرة والرياض.

فالواقع أثبت أن الإرادة الشعبية - حين تبلغ حدّها الأقصى - تصبح قوة جيوسياسية تفرض نفسها على أعظم المشاريع.

لقد أسقطت غزة فرضية أن الشرق يُهندس من فوق، وكشفت أن موازين القوة الحقيقية تتكوّن على الأرض: في صمود مقاتل، في شارع غاضب، في إرادة لا تنكسر.

ولهذا يتشكل الآن شرق جديد لا يقوم على ردع أميركي ولا تفوق صهيوني، بل على معادلة مختلفة تمامًا:

إن من لا يمكن إخضاعه… لا يمكن تجاوزه.