وهم السلام وقيد الهيمنة.. كامب ديفيد في اختبار الإرادة المصرية

لم تعد الخروقات "الإسرائيلية" مجرّد انتهاكات عابرة أو حوادث معزولة، بل غدت نهجاً ثابتاً وممنهجاً يهدف إلى تقويض الأمن القومي المصري وإحراج الدولة المصرية أمام شعبها وأمام العالم العربي.

  • إعادة التقييم... من خيار سياسي إلى واجب وطني
    إعادة التقييم... من خيار سياسي إلى واجب وطني

على مدى أكثر من أربعة عقود، لم تكن اتفاقية كامب ديفيد مجرّد اتفاق سلام، بل كانت في جوهرها قيداً استراتيجيّاً كبّل الإرادة المصرية، وحوّل مصر من قلب الصمود العربي إلى دولة محاصرة بحسابات دولية معقّدة.

لقد بدت هذه الاتفاقية، في ظاهرها، وعداً بإنهاء الصراع، لكنها في حقيقتها كرّست معادلة "السلام مقابل الهيمنة"، بدلاً من "الأرض مقابل السلام"، وجعلت الأمن القومي المصري رهينة ابتزاز دائم، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً.

وطوال هذه العقود، لم تهدأ الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، المدعومة أميركيّاً بلا حدود، بدءاً من تصفية القضية الفلسطينية تدريجيّاً، مروراً بمحاولات تهجير سكان غزة إلى سيناء، وصولاً إلى السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، في تحدٍّ سافر للسيادة المصرية.

إنّ هذا المسار التاريخي، بتعقيداته وتشعّباته، يضع مصر اليوم أمام مفترق طرق مصيري: إما أن تواصل الارتهان لاتفاق أثبت الزمن أنه يفتقر للعدالة والتوازن، أو تستعيد قرارها الوطني المستقل، وتعود إلى دورها الطبيعي كقوة عربية مركزية وصاحبة مشروع تحرّري يليق بتاريخها ومكانتها.

"إسرائيل" تجهض المعادلة وتعبث بالسيادة

لم تعد الخروقات "الإسرائيلية" مجرّد انتهاكات عابرة أو حوادث معزولة، بل غدت نهجاً ثابتاً وممنهجاً يهدف إلى تقويض الأمن القومي المصري وإحراج الدولة المصرية أمام شعبها وأمام العالم العربي. وأحدث هذه الخروقات - وربما أشدّها خطراً على الإطلاق - كان توغّل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في محور صلاح الدين (المعروف بمحور فيلادلفيا) وفرض سيطرته الفعليّة على معبر رفح الحدودي، في تجاوز فاضح لكلّ الاتفاقيات والتفاهمات الأمنية التي كرّستها كامب ديفيد وملاحقها الأمنية.

هذا التحرّك العسكري، الذي جرى في خضمّ العدوان المستمر على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، كشف عن نيّات الكيان الصهيوني الحقيقية في إعادة رسم الخارطة الجغرافية والسياسية للمنطقة، عبر خلق واقع جديد على الحدود المصرية الفلسطينية، يدفع في اتجاه تكريس مخطط "الوطن البديل" عبر تهجير الغزيين إلى سيناء، وتحويل مصر من دولة داعمة للقضية الفلسطينية إلى دولة مضطرة للتعامل مع أزمة توطين قسرية على أرضها.

وقبل هذه الخطوة التصعيدية، لم تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، بدءاً من حروب 2008–2009، مروراً بحرب 2012، ثم 2014، وصولاً إلى الحروب الأخيرة التي حوّلت القطاع إلى ساحة دمار مفتوح. كلّ تلك الاعتداءات كانت مصحوبة بتهديدات علنية للمصريين، سواء عبر القصف قرب الحدود أو ترويج مشاريع "التوطين" في الخطاب الإعلامي الصهيوني، في خرق صارخ لمبدأ السيادة المصرية.

إنّ مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي تأسست عليه اتفاقية كامب ديفيد، تحوّل عمليّاً إلى "الأرض مقابل الإذعان"، إذ ظلّت مصر ملتزمة التزاماً صارماً بكلّ شروط الاتفاقية، مراهنة على إمكانية بناء سلام عادل وشامل، بينما واصلت "إسرائيل" سياستها العدوانية التوسّعية، مستبيحة الأراضي الفلسطينية، وممعنة في بناء المستوطنات، ومحطّمة كلّ المبادئ التي نصّت عليها الاتفاقية وروحها، وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم تهديد أمنها القومي.

من وسيط سلام إلى شريك في القيد

لم تكتفِ الولايات المتحدة، بصفتها الراعي الرئيسي لاتفاقية كامب ديفيد، بالتخلّي عن حيادها المعلن، بل تحوّلت إلى شريك أصيل في الانحياز الصارخ لمصلحة الكيان الصهيوني، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً، حتى باتت الاتفاقية رهينة لإرادة واشنطن وتقديراتها الاستراتيجية في المنطقة.

فمنذ توقيع الاتفاقية، استخدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة المساعدات العسكرية والاقتصادية المقرّرة لمصر، التي كانت تُقدّم في إطار الاتفاق، كوسيلة ضغط ممنهجة لفرض إرادتها السياسية على القرار المصري السيادي، وابتزاز القاهرة في ملفات إقليمية متعدّدة، بدءاً من القضية الفلسطينية، وصولاً إلى الموقف من التحالفات الإقليمية والدولية.

ولم تقف الانتهاكات الأميركية عند حدود الملف الفلسطيني، بل امتدت إلى قضية الأمن المائي المصري، عبر دعمها السافر لمشروعات تقوّض حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وفي مقدّمتها دعم إثيوبيا في بناء "سدّ النهضة". هذا المشروع الذي وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب علناً بـ"الخطأ الغبي" لمجرّد أنه يهدّد استقرار المنطقة، بينما كانت الإدارات الأميركية -  في العلن والخفاء - تقدّم الغطاء الدولي لاستمرار إثيوبيا في تعنّتها، في تهديد مباشر وخطير للأمن القومي المصري ولحياة أكثر من مئة مليون مصري يعتمدون على النيل شرياناً وحيداً للحياة.

إنّ الدعم الأميركي المطلق لـ "إسرائيل"، وتوظيف المعونات كأداة تحكّم، حوّل الولايات المتحدة من وسيط سلام إلى طرف منحاز يكرّس الاحتلال، ويجهض أيّ محاولة مصرية لاستعادة دورها القومي الريادي في المنطقة. وهو ما يعيد طرح الأسئلة الكبرى حول جدوى استمرار مصر في الالتزام باتفاقية باتت مبرّراً لتكبيل حركتها الوطنية والإقليمية، بدلاً من أن تكون جسراً للسلام العادل والشامل.

 شلّ الدور المصري وحصار القرار

على الصعيد الاستراتيجي، لم تكن اتفاقية كامب ديفيد مجرّد تسوية سياسية محدودة، بل تحوّلت تدريجيّاً إلى قيد حديدي يكبّل الإرادة المصرية ويشلّ حركتها الإقليمية في لحظات كانت فيها المنطقة في أمسّ الحاجة لدور مصر القيادي. لقد جرّدت الاتفاقية مصر من قدرتها على المبادرة، وجعلتها في موضع ردّ الفعل، بعدما كانت دائماً حاضنة القضايا العربية ومركز الثقل الاستراتيجي للأمّة.

لقد أتاحت الاتفاقية لـ "إسرائيل" حرية مناورة واسعة، مكّنتها من فرض أمر واقع جديد في المنطقة، والتحرّك بمرونة مطلقة لإعادة هندسة التحالفات الإقليمية بما يخدم مشروعها التوسّعي، من دون أن تجد ردعاً عربيّاً حقيقيّاً أو تهديداً استراتيجيّاً من جانب مصر. فبينما انشغلت القاهرة بمقتضيات الاتفاقية وقيودها العسكرية في سيناء، مضت "إسرائيل" في تعزيز وجودها في البحر الأحمر، وفتحت قنوات اختراق مع دول القرن الأفريقي، حتى وصلت اليوم إلى حدود سدّ النهضة، في تحرّك يهدف إلى تطويق مصر مائيّاً واستراتيجيّاً في آن.

ويعيدنا هذا إلى تحذيرات المفكّر الكبير جمال حمدان، الذي رأى في كامب ديفيد أخطر تهديد للأمن القومي المصري في تاريخه الحديث، حين أشار صراحةً إلى أنّ "الخطر الأكبر يكمن في تحويل سيناء إلى منطقة عازلة تضمن أمن إسرائيل، وتضع القرار المصري رهن الإرادة الدولية، بدلاً من أن يبقى تجسيداً للسيادة الوطنية".

لم تعد تلك التحذيرات مجرّد رؤية استشرافية، بل تحقّقت على الأرض بكلّ تفاصيلها القاسية، في ظلّ حالة استسلام عربي واسع، وتفكّك منظومة الردع الجماعي. وهكذا، تحوّلت مصر من قائد طبيعي للمشروع القومي العربي إلى دولة محاصرة بمحدّدات أمنية وعسكرية لا تخدم سوى المشروع الصهيوني.

إعادة التقييم... من خيار سياسي إلى واجب وطني

بعد أربعة عقود من الالتزام الأحادي، أصبح من الواضح أنّ اتفاقية كامب ديفيد لم تعد مجرّد وثيقة سياسية، بل تحوّلت إلى عبء ثقيل يكبّل الإرادة المصرية، ويقيّد قدرتها على الحركة الحرّة في محيطها العربي والأفريقي. لقد باتت مراجعة هذه الاتفاقية أو حتى إلغاؤها خطوة وطنية واجبة، وليست خياراً سياسيّاً أو تكتيكيّاً.

إن إعادة التقييم لا تنبع من نزعة عدوانية أو حنين إلى المواجهة العسكرية، بل من قناعة عميقة بأنّ استعادة السيادة الوطنية الكاملة هي شرط أساسي لنهضة مصر وتحرّر قرارها. فالاتفاقية، في صيغتها الحالية، كرّست حالة اختلال في موازين القوى، وحالت دون تفعيل القوة الشاملة لمصر - السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية - في الدفاع عن قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

كما أنّ الحديث عن الإلغاء لا يعني الانجرار إلى الحرب، وإنما يعني استعادة الحقّ في اتخاذ القرار الوطني الحرّ، وإعادة التموضع الاستراتيجي لمصر كحائط صدّ أول ضدّ المخططات الإقليمية والدولية التي تستهدف تفكيك المنطقة وإعادة رسم خرائطها لصالح المشروع الصهيوني.

إنّ مصر اليوم مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى بطرح بدائل سياسية واستراتيجية جديدة، تعيد بناء مكانتها كقوة مركزية قادرة على حماية أمنها القومي، والدفاع عن أمن الأمة العربية برمّتها. فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، واللحظة الراهنة تفرض شجاعة استثنائية في اتخاذ القرار، حتى لو بدا صعباً أو محفوفاً بالمخاطر.

التاريخ لا يرحم المتردّدين

في المحصّلة، يفرض علينا الواقع الراهن - بكلّ ما يحمله من تهديدات وتحدّيات - إعادة قراءة اتفاقية كامب ديفيد ليس بوصفها نصّاً مقدّساً، بل باعتبارها وثيقة قابلة للمراجعة والمساءلة. لقد تحوّلت هذه الاتفاقية من وعدٍ بسلام عادل، إلى قيدٍ يحاصر مصر، ويمنعها من استعادة دورها التاريخي كقلب نابض للأمّة العربية، وحائط صدٍّ أول ضد الأطماع الصهيونية والإقليمية.

إن اللحظة التاريخية التي نعيشها لا تتيح رفاهية التردّد أو المراوغة. فإما أن تستعيد مصر قرارها المستقل، وسيادتها الكاملة، وتعود لقيادة مشروع نهضة عربي حقيقي، أو تظلّ أسيرة لاتفاق أفرغ روحها القومية، وأفقدها ثقة الشعوب العربية في ريادتها.

ولعلّ أعظم ما يمكن أن نقدّمه للأجيال القادمة، هو أن نثبت في هذه اللحظة الفارقة، أننا كنا أمناء على المصير الوطني، شجعاناً في اتخاذ القرارات المصيرية، وأوفياء لوعد التحرّر والسيادة. فالتاريخ - كما قال جمال حمدان - لا يرحم الضعفاء، ولا يمنح المجد إلا للذين يجرؤون على كسر القيود، والانتصار للحقّ، مهما كانت التكاليف.