"إسرائيل" والدروز في سوريا... بين خديعة الحماية وحقيقة الخيانة

لا يمكن قراءة السياسة الإسرائيلية تجاه الدروز في سوريا، إلا كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة هندسة الإقليم على أسس التجزئة والتحكم عبر الأقليات.

0:00
  •  لا يمكن قراءة السياسة الإسرائيلية تجاه الدروز في سوريا، إلا كجزء من استراتيجية أوسع.
    لا يمكن قراءة السياسة الإسرائيلية تجاه الدروز في سوريا، إلا كجزء من استراتيجية أوسع.

بينما تعلن "إسرائيل" توجيه ضربات جوية في منطقة "صحنايا" داخل الأراضي السورية تحت ذريعة "حماية الدروز"، وتصدر بيانات رسمية تؤكد التزامها بـ"الدفاع عن أبناء الطائفة" في السويداء وجبل العرب، وجرمانا، وغيرها من المناطق السورية تبرز مفارقة حادة: معظم دروز سوريا يرفضون علنًا التدخل الإسرائيلي، ويؤكدون تمسكهم بهويتهم العربية-السورية، بينما تسعى "تل أبيب" لتقديم نفسها كـ"ضامنة أمنية" في مناطق لا تزال خارج سيطرتها.

هذه المفارقة تزداد عمقًا عند النظر إلى خصوصية دروز الجولان المحتل، الذين – رغم مرور أكثر من خمسة عقود على احتلال أرضهم عام 1967 – لا يزالون يرفضون التجنيس الإسرائيلي، ويتمسكون بانتمائهم لسوريا رغم محاولات الدمج القسري والعزلة الجغرافية.

بعكس موقف الدروز في فلسطين المحتلة، الذين اندمجوا بالمؤسسات الاسرائيلية، ولا سيما بعد فرض قانون التجنيد الإجباري على شبابهم عام 1956، بدعم من الزعامة الروحية آنذاك، الشيخ أمين طريف.  

ولعل هذا الثبات على الموقف الوطني السوري من قبل دروز مرتفعات الجولان المحتلة يسلّط الضوء على الهوة بين الخطاب الإسرائيلي حول "حماية الدروز في سوريا" وبين الواقع السياسي والاجتماعي للطائفة في مناطقها الأصلية.

فبعيدًا من الادعاءات الإنسانية، يتقاطع الحراك الإسرائيلي في الملف السوري مع رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد، وتُعد المناطق ذات الغالبية الدرزية في الجنوب السوري، وعلى رأسها السويداء، جزءًا من مسرح العمليات غير المعلن لهذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى توسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي نحو العمق السوري، من بوابة الأقليات والفراغات الأمنية.

من بين المشاريع التي طُرحت في الأوساط الأمنية والسياسية داخل "إسرائيل"، يبرز ما يُعرف باسم "ممر داوود"، وهو مشروع يمتد من الجولان المحتل جنوبًا نحو محافظة السويداء ودرعا، ثم يتصل بمناطق النفوذ الكردي شمالًا، ليشكل شريطًا استراتيجيًا يفصل سوريا عن لبنان، ويهدف هذا الممر أمنياً، إلى خلق شريط أمني عازل تحت ستار حماية الأقليات، وعلى رأسها الدروز؛ يفصل سوريا جغرافيًا واستراتيجيًا عن أي عودة لتشكيل محور طهران–دمشق–بيروت مجدداً.

لكن أهمية هذا الممر لا تقتصر على البُعد الأمني، بل تتعاظم في ظل التحولات الكبرى في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتراجع الوجود الإيراني، وصعود نظام جديد بقيادة أحمد الشرع (الجولاني)، الذي يُعارض طهران ويتقاطع كلياً مع المصالح التركية.

في هذا المشهد، تسعى "إسرائيل" إلى التموضع كلاعب إقليمي محوري، يربط شرق المتوسط بالخليج، ويشارك في مشاريع نقل الغاز والتجارة البرية عبر الأردن والعراق وتركيا، عبر الربط بين موانئها على البحر المتوسط (حيفا وأسدود)؛ بالمعابر البرية عبر الأردن والعراق نحو الخليج من جهة، وبالأراضي التركية كممر نحو أوروبا وآسيا الوسطى، من جهة أخرى.

"ممر داوود" بهذا المعنى ليس مجرد حزام أمني، بل هو بنية تحتية استراتيجية تُمكّن "إسرائيل" من أن تصبح حلقة وصل في منظومات الطاقة الإقليمية.

المفارقة أن "إسرائيل" لا تكتفي بتسويق المشروع كمصلحة استراتيجية خاصة بها، بل تُلبسه ثوب "الدور الأخلاقي"، فتربط تدخلها العسكري في سوريا – وخصوصًا في المناطق التي يسكنها الدروز – بمزاعم حماية الأقليات من انتهاكات النظام الجديد.

غير أن هذا التبرير الأخلاقي ينهار تحت ثقل الوقائع. فعندما كانت جبهة النصرة، التي يتزعمها الجولاني نفسه، تهاجم قرى درزية في جبل السماق والسويداء، كانت "إسرائيل" توفّر لها الغطاء الطبي والدعم اللوجستي وتنقل حقائب الدولارات للإرهابيين ضمن مشروع "الجيرة الطيبة".

وقد فجّرت تلك السياسة موجة غضب داخل المجتمع الدرزي في الجولان، تُرجمت باعتراض عنيف على سيارات إسعاف إسرائيلية تنقل جرحى النصرة، أبرزها في مجدل شمس وحرفيش في يونيو/ حزيران 2015، حيث قُتل أحد الجرحى بأيدي مدنيين دروز غاضبين.

هكذا يتجلى التناقض في الرواية الإسرائيلية: من جهة، تُرفع راية "حماية الدروز"، ومن جهة أخرى، يُقدَّم الدعم لمن قتلهم بالأمس، كل ذلك في سبيل مصالح اقتصادية وجيوسياسية كبرى، تُقدَّم في الخطاب الإسرائيلي وكأنها التزام أخلاقي تجاه "الأقليات المهددة".

لذا، لا يمكن قراءة السياسة الإسرائيلية تجاه الدروز في سوريا، إلا كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة هندسة الإقليم على أسس التجزئة والتحكم عبر الأقليات. وما لم تتمكن القوى السورية الوطنية من استعادة زمام المبادرة وبناء مشروع وطني جامع، فإن مستقبل سوريا سيكون التجزئة و هيمنة الخارج وفي مقدمتها "إسرائيل".