"الوقت هو لاستكمال المسير".. وصية السيد الشهيد في يوم وداعه

أيقن السيد نصر الله أن وحدة الأمة فريضة لازمة، فجعلها أولى أولوياته، وعلم بأنها المنطلق لوحدة إنسانية تمثل هدفاً ومطلباً لا غنى عنهما في مسار صناعة تاريخ إنساني جديد.

0:00
  • كان دمِثاً لطيفاً، وكان صارماً صُلباً حين تقتضي الحال صرامة وصلابة.
    كان دمِثاً لطيفاً، وكان صارماً صُلباً حين تقتضي الحال صرامة وصلابة.

استعصت الكلمة وضاقت العبارة، حين انعقد عليها الرجاء في الحديث عن زعيم لطالما ملأ الدنيا وشغل الناس، وفي وصف حال أمة صنع لها الرجل مكانة في التاريخ.

الحديث عن السيد حسن نصر الله حديث عن الأمجاد والسؤدد والمعالي، مثلما هو حديث عن التاريخ، عبر حقبه السالفة والحاضرة والآتية، وفي الوقت عينه، هو مقاربة بين النظر والعمل في مسيرة رجل عَمرَ الحياة بالمعاني والأعمال.

يقول المفكر الإسلامي حسن الترابي إن الجهاد هو استفراغ الوسع لتحقيق المراد الإلهي، وهو المعنى ذاته، الذي مثّل حياة السيد حسن نصر الله، فلقد عُرف مجاهداً بذل كل جهده، وسخّر كل حياته لتحقيق المراد الإلهي. وهل من مراد للرب أكثر من سعي صادق ودؤوب لتحقيق الحرية والعدل والكرامة الإنسانية؟ وهل من تجلٍّ لهذه الثوابت الإنسانية أجلى وأوضح من سعي لاستعادتها، بعد أن سلبها المشروع الصهيوني - الغربي في فلسطين ولبنان والمنطقة؟

لقد عرف السيد نصر الله مراد الله الحق، وبلغ المعرفة بعد أن بذل جهده العقلي، بحثاً وتنقيباً، وأكمل مسعاه لمعرفة ذلك بالعمل المنبعث من نفسٍ بالغة الاستقامة. عمل في كل المساقات؛ عمل متعدد الأوجه، ينطلق من جهد تنظمه استراتيجيات وخطط، شملت صناعة الوعي، وتقوية الإرادة، وحشد الطاقات وتنظيمها، وبناء القوة الشاملة بكل عناصرها.

كانت استقامة الرجل حاضرة في كل وقت وحين، جسّدتها سيرته وأكدتها وقائعها، فعُرف بصدق يصدقه عمل، فجاءت فصول حياته منارات مضيئة أحسن فيها الفعل والقول. لم تغرّه الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها، ولم تُكرهه غريزة الحذر والتوقّي والاحتراس، فقدم نفسه في سبيل ما آمن به، وقدم قبلها ابنه أُسوةً برفاقه، الذين مضوا في الطريق ذاته.

كان دمِثاً لطيفاً، وكان صارماً صُلباً حين تقتضي الحال صرامة وصلابة. وحين بلغه نبأ استشهاد نجله، اعتصر حزنه وحبسه، حتى لا يُريَ عدوه منه ضعفاً، فأبدى قدرة فائقة على التعامل مع ذاك الظرف، أفقدت العدو فرصةَ أن يراه في لحظة ضعف.

كان خطابه مادة للتثقيف ولبناء الوعي، واكتسى خطابه رصانة وسلاسة وقوة، تزيدها ابتسامته جمالاً، ويزيدها رفع إصبعه قوة وصرامة.

أشْعَرَ مُسْتَضْعَفِي الأرض بأنه نصيرهم، المعبّر عن آهاتهم وتطلعاتهم، وهذا سر من أسرار نجاح زعامته، التي تجاوزت الحدود والانتماءات والهويات، فصار رمزاً عالمياً يبني ويقود مشروع تحرر عالمياً على أسس جديدة، تواجه الطغيان والاستبداد للمشروع الصهيوني – الغربي، بأبعاده الإمبريالية الرأسمالية المتوحشة، معتمداً على ثلاثية الحرية والعدل والكرامة، بصفتها ركائز مشروع التحرّر والانعتاق الكوني الذي يؤسسه.

أيقن السيد نصر الله أن وحدة الأمة فريضة لازمة، فجعلها أولى أولوياته، وعلم بأنها المنطلق لوحدة إنسانية تمثل هدفاً ومطلباً لا غنى عنهما في مسار صناعة تاريخ إنساني جديد، في وقت يطغى مشروع غربي تجرّد من القيم الإنسانية، وبات مهدِّداً لها. لهذا، كان السيد الشهيد جسر الوصل والتواصل.

يقارن البعض السيد نصر الله ببعض القادة والزعماء في العصر الحديث، لكنها مقارنة غير منصفة نتيجة عدة أسباب، أولها أنه جمع مزايا من قورن بهم، ولم يجمعوا ما اتَّصف به. وثانيها أنه انطلق من فكرة ومشروع أكثر عمقاً، ومن كاريزما استثنائية لم تتوافر لغيره حتى اليوم. وثالثها تميزه بقدرة فائقة على التخطيط والتدبير والتعبير تُرجِمت على الأرض مشروعات للمدافعة والانتصار والإعمار الحضاري، المؤسَّس على أسس متينة وسليمة. ورابع الأسباب اعتماده على حركة تغيير اجتماعي وسياسي، بينما كانت السلطة، في وظائفها وإمكاناتها، هي منطلق الآخرين.

لو تسنّى للسيد الشهيد أن يقول شيئاً في ساعة تشييعه لقال لمشيّعيه، الذين يأتونه من كل فجّ عميق، إن الوقت لاستكمال المَسير لا العزاء والرثاء، وإن بين أيديهم من عناصر الدفع والقوة ما ليس عند عدوهم، فعضُّوا عليها بالنواجز ولا تتركوها للنوازل.