"أسبارطة الكبرى".. طريق نتنياهو نحو عزلة "إسرائيل" وانهيارها الداخلي

في التاريخ والسياسة، تمثل إسبارطة نموذجًا للمجتمع الذي يضع القوة العسكرية والأمن القومي فوق كل اعتبار، بما في ذلك الرفاهية الاقتصادية والانفتاح الثقافي.

0:00
  •  إسبارطة كنموذج للمجتمع العسكري المنغلق.
    إسبارطة كنموذج للمجتمع العسكري المنغلق.

ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 15 أيلول/سبتمبر 2025 خطاباً دعا فيه الى تبني نهج "سوبر إسبارطة" لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، وضرورة مواجهه العزلة السياسية بتبني اقتصاد "ذي سمات أوتاركية" مغلقة تعتمد على الذات.

ودافع العديد من المؤيدين لنتنياهو عن هذا الخطاب بالرغم من أنه يعتبر بالفعل "كابوس حقيقي" وخروج عن كل المعايير الاقتصادية الحديثة التي تعتمد على الاعتماد المتبادل، واقتصاد السوق وغيرها.

فما هي هذه المفاهيم؟ وماذا تعني بالنسبة لـ "إسرائيل"؟

أولاً: الأوتاركية

- التعريف الأكاديمي

في التعبير اللغوي، الكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية "autarkeia" (αὐτάρκεια)، والتي تعني "اكتفاء الذات" أو "الاعتماد على الذات".

أما في الاقتصاد، فالأوتاركية (Autarky) هي نظرية أو سياسة اقتصادية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي الكامل للدولة، عن طريق تقليل الاعتماد على التجارة الخارجية والاستثمارات الدولية إلى أدنى حد ممكن، والسعي لإنتاج جميع السلع والخدمات الضرورية محليًا، لتحييد أثر العزلة أو العقوبات.

- التطبيقات التجريبية التاريخية

وبالرغم من أن جذورها الفكرية قديمة نوعاً ما، لم تظهر الأوتاركية كسياسة دولة إلا في العصر الحديث، وغالبًا ما ارتبطت بأيديولوجيات شمولية أو فترات حرب، وذلك فيما يلي:

أ‌- إيطاليا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939)

تحت حكم موسوليني، أعلنت "معركة القمح" (Battaglia del Grano) لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء وتحرير إيطاليا من "عبودية الخبز الأجنبي".

ب- ألمانيا النازية

تبنت نظام "الاقتصاد الحربي" (Wehrwirtschaft) وأقرّت عام 1936، خطة "الاستعداد الاقتصادي لمدة أربع سنوات" لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الاستراتيجية (مطاط اصطناعي، وقود) استعدادًا للحرب. وكان الشعار الشهير: "المدافع قبل الزبدة".

ج- اليابان الإمبراطورية

 تبنت مفهوم "مجال الازدهار المشترك لشرق آسيا الكبرى"، والذي كان في جوهره مشروعًا أوتاركيًا يهدف إلى خلق كتلة اقتصادية مغلقة تحت الهيمنة اليابانية، توفر الموارد وتستوعب المنتجات اليابانية.

ه- ألبانيا تحت حكم أنور خوجة: ولربما هي المثال الأفضل على الأوتاركية في القرن العشرين. قطعت البلاد علاقاتها بشكل متعاقب مع يوغوسلافيا، ثم الاتحاد السوفيتي، ثم الصين، وعزلت نفسها عمدًا عن العالم، ساعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية.

ومن الجدير ذكره، أن جميع التجارب الأوتاركية التاريخية فشلت تقريباً لسببين رئيسيين:

1.  تنتهك الأوتاركية مبدأ الميزة النسبية التي ابتدعها دايفد ريكاردو. وبالتالي إن السعي الى إنتاج "كل شيء محليًا" أثبت أنه غير فعال ويؤدي إلى: انخفاض جودة المنتجات، وارتفاع كلفة المواد، تباطؤ الابتكار بسبب غياب المنافسة العالمية، وانخفاض حاد في مستوى المعيشة.

2.  يؤدي اعتماد هذا النموذج إلى:

§ دولة بوليسية قمعية لفرض العزلة وتوزيع الموارد الشحيحة.

§ حرمان السكان من الوصول إلى السلع والثقافات الاخرى.

§ تحويل الاقتصاد إلى "اقتصاد حرب" دائم، على حساب الرفاهية الاجتماعية.

أولاً- إسبارطة كنموذج للمجتمع العسكري المنغلق

في التاريخ والسياسة، تمثل إسبارطة نموذجًا للمجتمع الذي يضع القوة العسكرية والأمن القومي فوق كل اعتبار، بما في ذلك الرفاهية الاقتصادية والانفتاح الثقافي. هذا يتوافق تمامًا مع فكرة الاقتصاد الأوتاركي الذي يهدف للاكتفاء الذاتي لأسباب أمنية أشرنا إليه سابقاً.

 كانت الحياة في إسبارطة منظمة حول إنتاج جنود أشدّاء مخلصين، وكان الاقتصاد والمجتمع يخدمان هذا الهدف الأساسي.

ثانياً: خطاب نتنياهو

يمكن أن نفنّد رسائل خطاب نتنياهو الى ما يلي:

إن حديثه عن الأوتاركية يعني اعترافه بالعزلة التي تشتد على إسرائيل نتيجة إبادتها لغزة، أما ربطها تحقيق "إسبارطة عظمى" فيعني إخضاع الاقتصاد بالكامل لاحتياجات الجيش والأمن. وهو، من خلال هذا التشبيه، يطلب من الإسرائيليين الاستعداد لمستوى معيشة أقل ("المدافع قبل الزبدة") في سبيل الأمن والبقاء.

مع العلم، أن أسبارطة لم تكن أوتاركية بالمعنى الدقيق (فقد كانت تتاجر مع بعض الجيران)، لكنها سعت إلى تقليل اعتمادها على الخارج إلى الحد الأدنى، خاصة في مجال الغذاء والإمدادات الحربية، لحماية نفسها من الحصار أو الابتزاز الاقتصادي.

واستناداً الى التاريخ، يمكن الإشارة الى إسبارطة وبالرغم من أنها كانت قوية عسكريًا ومهابة، لكنها لم تكن "إمبراطورية" بالمعنى الثقافي أو الاقتصادي مثل أثينا. ففي وقت قامت قوة أسبارطة على الترهيب والانضباط الداخلي، كانت أثينا تمثل النموذج المنافس: دولة منفتحة، ديمقراطية، تجارية، غنية ثقافيًا، وتعتمد على الشبكات البحرية والتجارية للقوة والنفوذ.  

ما سبق، يعني أن نتنياهو يدعو لأن تكون "إسرائيل" مستعدة لأن تكون منبوذة اقليمياً وعالمياً، وتتخلى عن طموحها لأن تكون دولة "طبيعية" مندمجة في المنطقة ومحترمة دوليًا، لتصبح قوة عسكرية خالصة ومكتفية ذاتيًا للسيطرة والتوسع على حساب جيرانها، حتى لو كان ذلك يعني العزلة (مثل إسبارطة).

وأخيراً، باستخدام هذه التشبيهات، لا يصف نتنياهو سياسة اقتصادية فحسب، بل يروج لرؤية كاملة لمستقبل إسرائيل: دولة منعزلة، قوية عسكريًا، ومنضبطة، ولكنها متخلفة عن الركب اقتصاديًا وثقافيًا مقارنة بالعالم. لكن التاريخ يشهد إلى أن الدول التي اختارت العزلة والتسلح على حساب الانفتاح والاقتصاد الحر انتهت إلى الانهيار من الداخل.