أحبائي
سيسجّل التاريخ أنّ هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية قد شهدت أجبن الناس والحكّام وأنّ المروءة والشهامة والإنسانية قد اختفت من بني البشر فعاثت شرذمة قليلة بالناس قتلاً وفتكاً.
-
هل سيتوقّف إخوانكم وأخواتكم ليسجّلوا كلّ ما جرى لكم ويدرّسوه للأجيال؟
لمن أشكو بثّكم وحزنكم ولمن أنقل عبراتكم واستغاثاتكم التي تشعل ناراً في قلبي ووجداني، لمن أنقل نظرات عيونكم الحائرة الباحثة عن تفسير ما يتمّ ارتكابه بحقّها التي تودّع أماً قتلت للتو مدركة أنها قد تلحق بها قريباً جداً نتيجة الحكم بالإعدام عليها جوعاً تحت أنظار العالم وحكّامه وممثّليه السياسيين وممثّلي أديانه السماوية والوضعية.
لمن أنقل قبح ما يحيق بكم وقد أصمَّ الغرب والشرق أذانه وأغلق عينيه في وجه معاناتكم غير المسبوقة وغير المقبولة لا أخلاقياً ولا إنسانياً ولا بأيّ لغة أو معيار له علاقة بأخلاق وحياة البشر السليمين من التشوّهات النفسية والخلقية.
أنظر إلى وجوهكم وأنتم تستصرخون الإنسانية أن تضع حداً لما تتعرّضون له من ظلم فاق كلّ أنواع الظلم التي ارتكبها البشر في أعتى وأقسى الحروب، أستقرئ كيف كنت سأراكم في المستقبل باحثين ومفكّرين وأطباء ومهندسين لو أنكم حصلتم على فرصتكم الطبيعية في الحياة والتي كفلها الباري عزّ وجلّ لكم.
أستقرئ رؤيتكم مستقبلاً تضيفون إرثاً جميلاً لثقافة وعلم ومعرفة البشرية في مختلف العلوم والاختصاصات وتزيّنون مراكز العلم والأبحاث واللغات والاختراعات بما تبدع به عقولكم النيّرة.
فأنتم أحفاد حضارة عريقة أغنت البشرية بإبداعاتها المعرفية منذ آلاف السنين. أولهذا يتمّ إعدامكم اليوم جوعاً وقهراً وإهانة يصعب تخيّل دوافعها من بني الإنسان لأخيه الإنسان، كما يصعب تصديقها رغم الأكفان التي فاقت عدد حامليها والذين يعلمون أنهم سيكونون هم حشوة أكفان أخرى غداً أو بعد غد وسيكونون هم الحاملين إلى أن لا يبقى أحد قادراً على أن يحمل أحداً أو يدفنه.
أحبائي هل أصبح عالم اليوم بحكّامه تماماً كما وصف اللّٰه عز وجل: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أؤلئك هم الغافلون. هل أصبح عالم اليوم ونخبه ومفكّروه ورجالات أديانه غافلاً .
عن شناعة ما يتمّ ارتكابه بحقّكم من ظلم وقتل وإبادة لا تمارسها حتى أشرس الحيوانات الضارية بحقّ بعضها البعض؟ سيسجّل التاريخ أنّ هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية قد شهدت أجبن الناس والحكّام، وأنّ المروءة والشهامة والإنسانية قد اختفت من بني البشر فعاثت شرذمة قليلة بالناس قتلاً وفتكاً في أبشع إبادة يرتكبها بشر بحقّ إخوانهم وأطفال أبرياء من بني البشر .
السؤال اليوم هو هل سيتوقّف إخوانكم وأخواتكم ليسجّلوا كلّ ما جرى لكم ويدرّسوه للأجيال؟ وهل ستشغل قصصكم المناهج الدراسية على مستوى العالم كي تكونوا شهداء البشرية كما أنتم بالفعل وكي لا يتجرأ أحد في أي حقبة مقبلة على الإيقاع بشرّ ما وقع بكم.
لا أجد اليوم طريقة أخرى لإنقاذكم لأني يئست من عالم فقد كلّ احترام لنفسه ولقوانينه ولإنسانيته وباع أرواحكم البريئة وأحلامكم المستقبلية وحقّكم المشروع في الحياة ببضع مصالح سوف تكسبه الخزي والعار على مدى الزمن المقبل.
يبدو أنّ الإنسانية قد دفنت عقد القادة العظام الذين يضحون بمراكزهم وحتى بأرواحهم كي يرفعوا أصواتهم إسناداً للحقّ ودفاعاً عن المظلومين وأصحاب الحقوق المشروعة. لقد تحوّل حكّام الأرض اليوم إلى ظاهرة صوتية فقدت قيمتها ومصداقيّتها لدى معظم الشعوب بحيث سواء على هذه الشعوب أتكلّم هؤلاء الحكّام أم كانوا صامتين.
أحبائي
إنّ كلّ صاحب ضمير لم يعد يستسيغ الحياة أو الطعام وأنتم تتضوّرون جوعاً كلّ يوم وتنتظرون دوركم في قول الكلمة الأخيرة لأحبائكم قبل أن تصيبوا قلوبنا بجرح آخر عميق لا يمكن أن يندمل. أحتاج إلى "جيش" من المؤرّخين كي أؤرّخ لشجاعتكم وبأسكم وصبركم وثقافتكم الفريدة العاشقة للأرض والتاريخ والإنسان، كما أحتاج إلى مسرحيّي العالم والكتّاب وصنّاع السينما كي ينتجوا ما يليق ببعض أخلاقكم وتاريخكم وثقافتكم التي يمكن أن تملأ الدنيا وتشغل الناس لقرون مقبلة والتي يمكن أن تضيء عتمة الدروب لمن لم يحظ بما حظيتم به من تاريخ ونبل وأخلاق وشهامة أراد أعداء الإنسانية أن يجتثّوها كي لا تفضح فقرهم وعجزهم على أن يكونوا أمثالكم.
أنظرُ كلّ يوم في وجوهكم الحائرة وعيونكم الجميلة المتقدة حزناً ودمعاً والتي تطرح على البشرية ألف سؤال وسؤال وأبكي معكم وأمدّ يدي إليكم لأخرجكم واحتضنكم وأطعمكم وأواسيكم وأرفع عنكم الظلم والمهانة، فتعود إليّ يداي العاجزتان وأغمض عيني آملة أن أحلم بنهاية هذا الكابوس عنكم وأن أشهد معجزة إلهية تعيد الحقّ إلى نصابه بحيث أراكم تفرحون وتمرحون ككلّ أطفال الخليقة، وتكبرون وتبدعون في مجالات شتى وتغتني الإنسانية بمساهماتكم القيّمة.
ولن أنسى حتى وأنا في نشوة الفرح بسلامتكم أن أسجّل سجلات العار المشين على الذين استهدفوكم من دون رحمة، وعلى الذين تواطؤوا أو صمتوا عن ضيمكم وتركوكم تواجهون مصيركم في أشنع إبادة مقصودة ومبرمجة لأطهر وأشرف خلق الله. إنّ دماءكم البريئة لن تذهب سدى ولكنها ستغيّر وجه العالم وتاريخه على عكس ما يخطّط له ويشتهيه القتلة الظالمون، وسيعلم الذين ارتكبوا حرب الإبادة الشنيعة والمخذية أيّ منقلب سينقلبون. دماؤكم أحبائي لن تكون نهاية المطاف بل هي الشعلة الأولى فيه والتي ستفاجئ العالم بارتداداتها على البشرية خلال العقود المقبلة. حينذاك لن ينفع الندم ولن يتمكّن المجرمون من التكفير عن سوء ما ارتكبته أيديهم ولن يُغفرَ لهم وسترث أجيالهم الخزي والعار في الدنيا والآخرة.
أحبائي
يعقدون قمماً من بعدها قمم فقط لحفظ ماء الوجه وللتمظهر بمظهر الحريص على فعل شيء ولكنّ الأفعال أشدّ وقعاً من الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. أصحاب الوظائف السامية اليوم يمثّلون أدوارهم تمثيلاً وكأنهم على مسرح الحدث وليس في صلبه وليسوا مسؤولين عن ارتداداته وتطوّراته.
وبهذا فقد تُرك حبلُ الأحداث على غاربه من دون حسيب أو رقيب ومن هنا يأتي الضياع وفقدان الأمل لدى الأجيال الناشئة من نظام عالمي لا يمتلك أياً من مقوّمات النظام أو القانون أو الأخلاق بل أغرق الجميع في فوضى وحيرة قاتلتين. الأمل الوحيد اليوم هو أن تكون دماؤكم منارات دروبنا المقبلة وأن تطهَر مأساتكم بني البشر من العنصرية المقيتة والتي تمثّل وباءً حقيقياً أصاب العالم في مراحل مختلفة من التاريخ ولم تستقم الحياة السليمة إلا باقتلاعه. إنها العنصرية المقيتة التي تغتال طفولتكم وتلتهم أجسادكم الغضّة البريئة ولكنّ أحداً لم يجرؤ على أن يُسمّي الأشياء بمسمّياتها الحقيقية وإنه لطغيانُ الصلفِ والقوةِ وانعدامٍ القيم والمعايير. ولكن ورغم ما يبدو على أنه ضعف وعدم قدرة على الردّ تبقون أحبائي يا أطفالَ غزة أنتم الأعلونَ في الدنيا والآخرة.