أشياء لا أفهمها: "الإدانة بأشدّ العبارات" و"المجتمع الدولي"

لقد استعاضت حكوماتنا العربية بـ "دبلوماسية الإغاثة" بديلاً عن "الإغاثة بالدبلوماسية والاقتصاد والعقوبات وقطع العلاقات... حتى حكاية الإغاثة، فيها كثير من اللغط..

  • عن
    عن "المجتمعين" الدولي والعربي..

درج الخطاب الرسمي العربي المواكب لجريمة العصر في غزة، على تدبيج بيانات الشجب والاستنكار، مشفوعة في بعض الأحيان، بنقد "المجتمع الدولي" ومساءلته عن تقصيره، وتحميله وزر استمرار الكارثة الإنسانية واستطالتها.

في المحطات الفاصلة، ميدانياً وسياسياً، وحين تُخرِج حكومة الفاشيين الجدد، أقذر ما في جعبتها من مواقف وممارسات إجرامية، يذهب هذا الخطاب، إلى الإدانة "بأشدّ العبارات"، من دون أن يكلّف واضعوه أنفسهم عناء التفصيل في ذكر هذه العبارات، وللمتلقّي أن يطلق العنان لمخيّلته، واشتقاق ما يمكن اشتقاقه من عبارات الإدانة الشديدة... ثم ينتقل هذا الخطاب، من مناشدة "المجتمع الدولي" التدخّل بسرعة كافية، إلى الغمز واللمز من صمته وعجزه، بل وتحميله المسؤولية عن المذبحة.

لم أتبيّن حتى الآن، الفرق بين الإدانة و"الإدانة بأشدّ العبارات"، ولست واثقاً من جواز أن تصدر بصيغة "المتحدّث"، فعادة يترك أمر وصف "الإدانة" وتقدير فداحتها، للمتلقّي، مواطناً كان أم إعلامياً أو دبلوماسياً... أما أن تقول أنت بأنك تدين بأشدّ العبارات، من دون الإتيان على ذكر أيّ منها، فتلكم حيلة المفلس، الذي نضب قاموسه، لقلّة حيلته، وابتعاده عن دور "الفاعل" واكتفائه بدور "المراقب".

حتى في بعض الأحيان النادرة، حين يقدم مسؤول عربي على التفصيل في بيان "الإدانة"، كما فعل الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخّراً، حين وصف ما يجري في غزة بمؤامرة تهجير وإبادة توطئة لتصفية القضية الفلسطينية، لم تقترن أشدّ عبارات الإدانة عنده بأشدّ الإجراءات، أو حتى بالتلويح بها والتهديد بإمكانية اللجوء إليها، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ لم تمضِ سوى 48 ساعة على البيان غير المسبوق، حتى تمّ الكشف عن أكبر صفقة غاز بين القاهرة و"تل أبيب"، وبقيمة تتخطّى الـ "35" مليار دولار.

لا أحد من العرب، قادة وحكومات، أتبع القول بالفعل، لا إجراء سياسياً أو دبلوماسياً، ولا عقوبة اقتصادية فرضت على "إسرائيل"... لم يُلغَ اتفاق واحد، ولم تتعطّل صفقة واحدة، بل إنّ بعض الحكومات العربية، وجدت في تعطيل ميناء إيلات واضطراب حركة الشحن الجوي والبحري في "إسرائيل"، سانحة لها، لتوقيع اتفاقات جديدة، وتفعيل اتفاقات قديمة، وزيادة حجوم التداول، ومدّ "إسرائيل" بكلّ ما تحتاجه ويتوفرون عليه.

وبعد مرور 22 شهراً على حرب التهجير والتطويق والإبادة، رأينا أكثر من نصف دزينة من الدول العربية، تكثّف حملاتها لإدانة المقاومة وشيطنة حماس، هنا لا يدور الحديث بلغة "أشدّ العبارات"، هنا يتمّ اللجوء إلى "التفصيل المُملّ" في شرح "الأسباب الموجبة" للإدانة، فالحركة مقامرة، وغير شرعية، اختطفت السلطة، تنتمي إلى محفل إخواني عالمي شرير ومشبوه، وقد آن أوان تجريدها من سلاحها، وإخراجها من مسرح السياسة، إذا ما تعذّر إخراجها من مسرح الجغرافيا وكتب التاريخ.

الإدانة بأشدّ العبارات، هو التعبير الأكثر فجاجة، عن حالة عجز وتواطؤ وتقصير، يسعى مطلقوها إلى "الإبراء المستحيل" للذمّة والضمير من المسؤولية عن استمرار شلال الدم الفلسطيني في غزة، وتخدير الرأي العامّ في بلدانهم، بإيهامه أنه والحكومات، يقرأون من الصفحة نفسها... هذا كذب صراح، وتدليس مكشوف.

عن "المجتمعين" الدولي والعربي

الأصل أنّ مصطلح "المجتمع الدولي" يؤول إلى منظومة الدول والحكومات والمنظمات الدولية والقوانين الناظمة، والمجتمع المدني العالمي بوصفه لاعباً متزايد التأثير في صنع السياسات وتشكيل الرأي العامّ في الدول الحرّة والديمقراطية.

يُغري هذا التعريف بطرح السؤال: وماذا عن "المجتمع العربي"، فلدينا أكثر من 20 دولة، وأقدم منظمة إقليمية، ومنظومة من المواثيق والتشريعات العابرة للحدود، ومجتمعات مدنية متفاوتة في قوتها وتأثيرها، لاعبون "لا دولاتيين"، ورأي عامّ لم يدخل الساحة كلاعب مستقرّ ومستدام... لماذا لا نقرأ ولا نسمع كثيراً حديثاً عن "المجتمع العربي" بهذا المعنى السياسي، بعيداً عن الاستخدام الشائع في العلوم الاجتماعية؟

بدأت الدول العربية مواكبتها لحرب الإبادة على غزة، بإطلاق المناشدات للمجتمع الدولي التدخّل لوقف الحرب وإدخال المساعدات وحلّ القضية... هذا جيّد، سيما حين كان "المجتمع الدولي" سادراً في غيّه وغيبوبته... مع استمرار الحرب واستطالة أمدها، وارتفاع كلفها، وتحوّلها إلى عامل إحراج للحكومات أمام شعوبها، ارتفعت نبرة الخطاب العربي الرسمي، إلى نقد المجتمع الدولي، وإدانة عجزه وتقصيره، واتهامه بازدواجية المعايير، وتحميله وزر الكارثة.

ليس من موقع الدفاع عن "المجتمع الدولي"، فلا أرغب في ممارسة دور "محامي الشيطان"، ولكن دعونا نسأل من هو المجتمع الدولي اليوم، وما هي مواقفه من غزة... جميع دول العالم باستثناء واشنطن، انتهت إلى إدانة الحصار والتجويع، والمطالبة بوقف الحرب وإدخال المساعدات.... معظم دول المجتمع الدولي، الغربية منها بشكل خاصّ، تشهد شوارع مدنها وميادينها، أكبر الاحتجاجات الشعبية وأكثرها انتظاماً وديمومة وتصاعداً، ثمّة انقلاب في مواقف الإعلام، صاحبه انقلاب في الرؤية والرواية، ويوماً في إثر آخر، تتحوّل "إسرائيل" إلى "شاة جرباء"، معزولة ومنبوذة.

الاستمرار في هجاء المجتمع الدولي، هو طريق التفافي، تسلكه الحكومات العربية لتفادي تسمية الأشياء بأسمائها: تحميل الولايات المتحدة حصراً المسؤولية عن المذبحة والتجويع وتعطيل فرص الحلّ والدبلوماسية... بدل القول إنّ واشنطن هي المشكلة وليست هي الحلّ، يجري توزيع دم الفلسطينيين على قبائل المجتمع الدولي... هذه لعبة مثيرة للشفقة، وتشفّ عن حالة العجز عن فعل أيّ شيء، ذي مغزى.

ثم دعونا نقارن بين مواقف "المجتمع الدولي" ومواقف "المجتمع العربي"... الإدانة بأشدّ العبارات تصدر عن بعض مكوّنات المجتمع الدولي، تفصيلاً لا اختزالاً... دول أفريقية ولاتينية وأوروبية تتجرّأ على توصيف ما يجري أكثر من الدول العربية... لم يبادر العرب لجرجرة "إسرائيل" إلى لاهاي، جنوب أفريقيا فعل... لم يُسمح لأيّ تظاهرة عربية بالاقتراب من سفارة "إسرائيل" أو واشنطن، أو ميناء تحميل البضائع لـ "إسرائيل"، في عواصم عالمية عديدة، حصل أمرٌ كهذا، وهو مستمر، ومرشّح للتصاعد.

تراجعت حملات شيطنة واستهداف المتظاهرين والمؤيّدين لفلسطين في عدة عواصم غربية، وباتت الأعلام والكوفيات والشعارات الفلسطينية تغطّي الجدران والساحات، في حين يُطارد المتظاهرون العرب، ويُجرّم رفع الأعلام والشعارات المؤيدة لفلسطين، وثمة عشرات النشطاء العرب في السجون بتهم التضامن مع فلسطين وتعكير صفو وانسياب الحياة اليومية في مدنهم.

يحاججون بانتفاء حاجة "المجتمع العربي" للتظاهر والاحتجاج بخلاف "المجتمع الدولي"... عندنا حكومات لم تقصّر مع غزة وفلسطين، وعندهم حكومات متآمرة عليهما... لن أجادل في حكاية تآمر بعض الغرب على فلسطين وغزة، أما حكاية "عدم التقصير" التي تنسب للحكومات والأنظمة العربية، فلا أظنّ أنّ أحداً يمكن أن يشتريها... إن كنتم غير مقصّرين، دعوا الشوارع تخرج عن بكرة أبيها للإشادة بأفعالكم، ولا تخشونها، طالما أنكم وإياها في القارب ذاته.

لقد استعاضت حكوماتنا العربية بـ "دبلوماسية الإغاثة" بديلاً عن "الإغاثة بالدبلوماسية والاقتصاد والعقوبات وقطع العلاقات... حتى حكاية الإغاثة، فيها كثير من اللغط، فلا شفافية في الأرقام والمعلومات، وثمّة ست دول عربية على الأقلّ، تدّعي كلّ واحدة منها، بأنها تتصدّر قائمة "المُغيثين" وبنسب عالية جداً، ثمّ إنّ موضع الإغاثة بحدّ ذاته، بحاجة لنقاش، فاستمرار المجاعة وموت مزيد من الأطفال والنساء والشيوخ من جرّاء التجويع، ينهض كشاهد على الفشل العميم.

لم يتوقّف العمل باتفاقات كثيرة بين دول غربية و"إسرائيل"، لكن على الأقل ثمّة تلويح بالتجميد والتعليق، وبعضها اتخذ خطوات فعلية، وفي القارة اللاتينية ثمّة خطوات أكثر تصعيداً، ومجموعة لاهاي ذهبت إلى أبعد مما ذهبت إليه "جامعة أبو الغيط"... لماذا تنتقدون المجتمع الدولي، وهو يسبقكم بخطوات على طريق "الإدانة بأشدّ العبارات"، وينطلق من عواصمه، "تسونامي" الاعترافات المتلاحقة بفلسطين، والإدانات بالجملة والمفرق لـ "إسرائيل"، وثمّة قدر من الأفعال تتبع الأقوال، بخلاف الحال عندنا، حيث شوارعنا في سبات عميق و"موت سريري"، لا قضاءً وقدراً، بل بفعل فاعل.

وفي الوقت الذي تنتقل فيه مؤسسات إعلامية وإعلاميون عالميون بارزون، من التبنّي الكامل للرواية والرؤية الإسرائيليتين، إلى مواقع التفنيد والتنديد وفضح التوحّش والإبادة... نرى منابر وإعلاميين عرباً، يُمعنون في النفاق والمداهنة، ويوغلون في شيطنة أيّ فعل أو قول مقاوم... لديهم عداء عقائدي مع مفاهيم الكرامة والتحرّر والحرية... وهذا أمر نستنكره ولا نستغربه، فهيهات لمن استمرأ العبودية أن يتحدّث بلغة الأحرار والشرفاء.

وفي الوقت الذي تعرب فيه واشنطن عن أشدّ مشاعر القلق والتشاؤم من جرّاء العزلة التي تعيشها "إسرائيل" على الساحة الدولية، وتحثّ حكومة نتنياهو التفكير بالحاجة لتخطّيها... نرى إدارة ترامب لا تكفّ عن الترويج للتفاؤل بتطبيع محتمل بين "إسرائيل" وست دول عربية، بل وتحثّ الدول العربية كافة، القريبة والبعيدة، على الالتحاق بالقاطرة الإبراهيمية، لأنها أن نجحت في تطويع هذه الدول، ستكون قد فتحت ثغرة كبرى، "دفرسوار"، في جدران العزلة الدولية المضروبة على "إسرائيل"، فلا أحد يرغب في أن يكون "كاثوليكياً أكثر من البابا... وبعد ذلك يأتيك من يتحدّث بلغة نقدية – هجائية للمجتمع الدولي، ساعياً لتخليص "المجتمع العربي" من أوزار المسؤولية عن استمرار الكارثة واستطالتها.