ازدواجية الغرب في غزة.. بين التاريخ والواقع والرياء
نجحت السياسات الصهيونية وبفضل الحكام المتواطئين وإعلامهم ومثقفيهم الذين باعوا ضمائرهم في القضاء على المشاعر الوطنية والقومية والدينية بل وحتى الإنسانية لمعظم الشعوب العربية.
-
لقتل والإرهاب والإجرام في غزة مباح، لكن التجويع " غير مقبول ".
من سايكس بيكو إلى وعد بلفور، ومن الانتداب البريطاني لفلسطين إلى قرار التقسيم، ومن حرب السويس 1956 إلى النكبة الثانية عام 1967، ومنها إلى جميع المواقف والقرارات التي اتخذتها، فقد أثبتت العواصم الغربية وبدرجات متفاوتة تحالفها المطلق مع الصهيونية العالمية التي فعلت ما فعلته، لا فقط في فلسطين، بل في الجغرافيا العربية برمتها.
وكان مصدر قوة هذه العواصم في تعاملاتها مع القضايا العربية والإسلامية، هو تواطؤ أنظمتها، وفي الحد الأدنى، أنانيات وغباء وجهل الكثير من مثقفيها في مختلف المجالات .
وجاء التغيير التكتيكي في مواقف بعض العواصم الغربية كبرلين وباريس وروما ولندن ليثبت هذه الحقيقة من جديد، في ظل الواقع العربي والإقليمي الذي شجع هذه العواصم على المزيد من الدعم لسياسات "تل أبيب" الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
وشجعها ذلك أيضاً على الاستعجال في التطبيع مع حكام دمشق الجدد، مقابل تطبيعهم مع "تل أبيب" التي استمدت كل قوتها العسكرية والسياسية في حرب غزة من الدعم الأميركي والأوربي بكل تناقضاته.
وهو ما استغله نتنياهو وحكومة الإرهاب العنصري، التي تمادت في إجرامها مع تجاهل مطبق من الأنظمة العربية التي اكتفت وكالعادة بالتهديد والاستنكار الكلامي. كما هي الحال عندما رفضت تل أبيب السماح لعدد من وزراء الخارجية العرب بزيارة رام الله ولقاء الرئيس محمود عباس. وهو ما تستغربه شعوب العالم الشريفة التي وقفت وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، الذي لم تحرك الشعوب العربية والإسلامية ساكناً من أجله، كما لم تحرك ساكناً تجاه العدوان الصهيو/أميركي/ أوروبي على لبنان واليمن، وأخيراً في إيصال المجموعات الإرهابية إلى السلطة في دمشق، التي ستفتح أبوابها لعصابات الإجرام الصهيونية، لتحقق أحلامها اليهودية الدينية منها والأسطورية.
وجاءت مواقف العواصم الأوربية خلال الأيام القليلة الماضية لتثبت هذه الحقيقة، التي انعكست بشكل واضح على تناقضات برلين في الدرجة الأولى والعواصم الأخرى بدرجات متفاوتة.
فبعد الدعم المطلق الذي قدمته حكومة شولتس، التي كانت تضم الحزب الاشتراكي الديمقراطي مع حزب الخضر، للكيان الصهيوني المجرم، وهو ما يتناقض مع أسس ومبادئ الحزبين المذكورين فيما يتعلق بالسلام العالمي، لم تتأخر حكومة الثنائي المسيحي الديمقراطي /الاشتراكي الديمقراطي في التعبير عن مواقفها الداعمة للنظام العبري، الذي استغل ويستغل ذكرياته السيئة مع النازية الألمانية، التي استمر تحالف ورثتها مع أحفاد الصهيونية العالمية.
فخلال حملته الانتخابية لم يتردد زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس في التعبير عن دعمه لتل أبيب، حيث قال إنه 'لن يتأخر في استقبال نتنياهو في برلين، كما لم يتأخر وزير خارجيته الجديد يوهان فاديفول في ذلك، على الرغم من اعتراضهما على ' سياسات التجويع في غزة".
وتراجعا معاً عن هذا الاعتراض، حيث استبعد فاديفول "أي تغيير في مواقف برلين تجاه تل أبيب" على الرغم من انتقاده وانتقاد المستشار ميرتس لسياسات "إسرائيل" في غزة، وقال "نحن مقربون من إسرائيل ونقف إلى جانبها لا فقط تاريخياً، بل لأننا مسؤولون عن أمن إسرائيل ووجودها".
تناقض الحكومة الألمانية التي أرسلت كل أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية للنظام الصهيوني منذ اليوم الأول للحرب في غزة، لا يختلف في جوهره عن تناقضات باريس ولندن، عاصمتي سايكس بيكو وبلفور، ومعهما واشنطن صاحبة قرار التقسيم الاستعماري.
فعلى الرغم من المد والجزر في مواقف الرئيس ماكرون والرد الإسرائيلي عليه بلهجات أشد، حيث اتهمت "تل أبيب" باريس بشنّ "حرب صليبية على الدولة اليهودية"، كما اتهمت لندن بانتهاج سياسات عنصرية ضد "الدولة العبرية، فالجميع يعرف دور ماكرون وستارمر (زوجته يهودية ) في الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة، منذ طوفان الأقصى مروراً بالعدوان على لبنان ثم اليمن، وأخيراً إسقاط النظام في دمشق وإيصال الجولاني إلى السلطة بعد تأهيله بريطانياً، وفق اعترافات السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد.
ولحق به في التأهيل الرئيس ماكرون، الذي استضاف الجولاني باسمه الجديد، أحمد الشرع، في قصر الإليزيه في السابع من الشهر الماضي. وكل ذلك في محاولة منه ومن الزعماء الأوربيين الآخرين للتغطية على الدعم الأوروبي التقليدي للسياسات الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية في المنطقة، التي لا ولن تعني غزة فقط، على الرغم من جوهرية القضية.
فالرئيس ماكرون الذي قال "إن الغرب يخاطر بفقدان كل مصداقيته أمام العالم إذا تخلى عن غزة وسمح لإسرائيل بأن تفعل ما تشاء" ينسى أنه هو الذي يتآمر على المقاومة في لبنان، ويستنفر كل إمكانياته للسيطرة على القرار السياسي في دمشق، وكمنافس جدي لأنقرة ولندن وبرلين، بل وحتى روما التي لا تختلف رئيسة وزرائها ميلوني في تناقضاتها مع معظم حكام أوروبا.
ويتسابقون فيما بينهم في السر والعلن، للتعبير عن تضامنهم مع الكيان العبري في حربه ضد "ارهاب الإسلام المتطرف" في غزة، كما يتسابقون فيما بينهم للاعتراف بالمجموعات التي كانوا يقولون عنها إنها "إسلامية متطرفة إرهابية" وهي الآن تحكم في دمشق.
وأثبتت التطورات الأخيرة، أنها كانت وما زالت الهدف الأساسي في مجمل سيناريوهات الغرب الإمبريالي أوروبياً وأميركياً، ويسعيان معاً إلى الترويج لمواقفه "الإنسانية الكاذبة" فيما يتعلق بغزة.
وكأًن القتل والإرهاب والإجرام مباح، ولكن التجويع " غير مقبول "، وبعد ثلاثين شهراً من المجازر والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني .
ويبقى الرهان في نهاية المطاف على مصداقية هذا الغرب الذي لو كان صادقا وحازماً في مقولاته ضد الكيان العبري، لقرّر إلغاء كل الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، بل وحتى السياسية، كورقة ضغط عملية قد تجبر حينها المجرم نتنياهو على التراجع عن مجازره، التي تؤدي يومياً إلى استشهاد العشرات من أطفال ونساء فلسطين، وأمام أنظار الرأي العام العربي والإسلامي.
ونجحت السياسات الصهيونية، وبفضل الحكام المتواطئين وإعلامهم ومثقفيهم الذين باعوا ضمائرهم، في القضاء على المشاعر الوطنية والقومية والدينية بل وحتى الإنسانية لمعظم الشعوب العربية والإسلامية، ويبدو أن الغرب الأوروبي وأحياناً الأميركي، يستغل هذا الواقع المزري خلال حديثه عن غزة التي تحولت إلى ورقة للمساومة بها خلال السيناريوهات حول مستقبل فلسطين من دون حماس و لبنان من دون حزب الله وسوريا بالعلم الصهيوني، وأخيراً، المنطقة المستسلمة برمتها للرئيس ترامب و أمثاله في أميركا وأوروبا.
ولولاهم لما كنا الآن نتحدث عن كيان عبري صنعه الغرب، وكانت حجته في تدمير المنطقة، لا الآن فقط، بل حتى قبل وبعد قيام هذا الكيان، بكل تاريخه الديني والأسطوريّ الكاذب.
ومن دون التذكير به باستمرار، لا ولن يتسنّى لأحد أن يفهم سياسات الرياء الغربية التي حققت أهدافها، بعد أن نجحت دائماً في استعداء العرب للعرب والمسلمين للمسلمين، تارة جغرافياً وتارة أخرى عرقياً وأخرى طائفياً، بل وحتى وطنياً، كما هي الحال في سنوات الربيع العربي في ليبيا ومصر وتونس وسوريا واليمن وأخيراً فلسطين، التي تتآمر فيها "دولتها" ضد الأغلبية الساحقة من شعبها المناضل في غزة والضفة الغربية.