استعادة الوعي الشعبي في ضوء القصف العسكري
قلب الإيراني البعيد خلف جبال زاغروس، أقرب لغزة وجنين وبنت جبيل من عرب النيل وقاسيون، وهو قرب تعمّده النار الإسرائيلية في قصف جباليا ومشهد.
-
إيران نجحت في إطلاق مشروع محور المقاومة.
تحمل مسمّيات الحرب كما الصواريخ دلالات دينية وتاريخية ووطنية، وهي في مجملها تعبير مكثّف عن حالة ثقافية مقصودة، فالإسرائيلي يستجلب الاقتباس التوراتي ليعطي جرائمه مظلومية تاريخية، توحّد الشارع الإسرائيلي كما الشارع البروتستانتي المسيحي خلفه، بينما الإيراني في مسمّى (الوعد الصادق) يرسم مساراً أممياً مع المقاومة اللبنانية ووهج سماحة السيد حسن نصر الله في الجهاد ضدّ الكيان الإسرائيلي، وكأنّ الحرب تلخّصها دلالات المسمّيات في حشد الأبعاد التاريخية، خاصة مسمّيات الصواريخ الإيرانية (فتّاح وسليماني وعماد وخيبر) وهي تتصدّى للتحدّيات بين طرفين اكتملت فيهما حالة التباين الجمعي، واستعرت بينهما كلّ حلقات الماضي والحاضر، لأنّ المستقبل لم يعد يتسع لكليهما في بقعة جغرافية واحدة.
والمسألة باتت أبعد من مجرّد مسمّيات ودلالات، في ضوء الفرصة التاريخية التي رسمت معالمها الصواريخ الإيرانية في رمزية مشهدية سيف عليّ بن أبي طالب (ذو الفقار) وهي تنسج خيوط هذا السيف غداة انطلاقها باتجاه قواعد الشرّ الإسرائيلي، التي استطالت منذ 600 يوم على أطفال غزة ونسائها وقد أمعنت فيهم ذبحاً، وباتت الأمّة جميعها أمام فضاء يمكنه وقف المذبحة من جهة، ومن جهة أخرى يخلق مناعة فكرية ويستعيد وعي الأمّة الجمعي، وقد تشظّى على مذبح الصراعات المذهبية المفتعلة، كما الغرق في تفاصيل تاريخية ومتون عقائدية هي بالأساس لأهل التخصص الاجتهادي، على حساب أصول الدين وقيم الإسلام وتحدّيات الوقت.
فجوة هائلة اتسعت بين الوعي غداة فتح خيبر منذ السنة الهجرية السابعة، حيث سقطت قلاع اليهود وتهاوت بقبضات عليّ بن أبي طالب والثلة المقاتلة من المهاجرين والأنصار، وبين الصراعات الأهلية المعاصرة في سوريا والعراق وما أفرزته من تزوير للوعي الجمعي، وكانت قبل فتح خيبر قد تنزلت سورة القتال واختتمت آياتها بما يلفت النظر نحو المستقبل (وَإِن تَتَوَلَّواْ يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمثَاٰلَكُم) وكان سلمان الفارسي يجلس إلى جوار رسول الله حينها وقد لفتت هذه الآية نظر الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكلّهم من العرب، وجعلتهم يتساءلون عن ماهية هؤلاء القوم الذين سيستبدل الله بهم العرب عندما يتولّون؟!
بين التولّي عن الدين أو الهرب عند التقاء صفَيّ الحرب، فالنتيجة واحدة وهي مترابطة في أمّة هي الأمّة الإسلامية، حيث رفع رسول الله قبضة سلمان الفارسي ليجيب السائلين، قائلاً (لو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس) حيث التمايز بين قوميات الأمّة لا علاقة له بالطابع العنصري الجيني، إنما هو في جوهره فيمن يطلب الثريا وهو مستمسك بأهداب هذا الدين وقد تلخّصت معانيه في معركة الوعي على أرضيّة عدم التولّي يوم الزحف، حيث كان زحف السابع من أكتوبر اختباراً لهذه الأمّة، التي لم ينهض منها إلا رجال الوعد الصادق بدعم إيراني كما كان طوال الوقت، أو تنفيذ إيراني حصري كما يحصل في هذه الحرب الضروس.
نجح التيار المذهبي المتشنّج كما القومي المتطرّف، منذ انتصرت الثورة الإسلامية في إيران على الشرطي الأميركي الحاكم في الخليج عام 1979، في تضخيم الاختلافات المذهبية كما القومية، مع الفارق الجوهري الكبير بين السياقين، وقد اتحدا يا للعار، وكان يفترض أنّ كلاً منهما ينقض الآخر في أصل تكوينه الفكري، ولكنّ الفاعل السياسي المنتج لكليهما جعلهما يتّحدا في وجه التحدّي الإيراني المفتعل، وبالتحديد مع نجاح الغرب في إشعال الحرب بين العراق وإيران لثماني سنوات.
نهضت إيران من ركام الحرب المفروضة عليها، ونجحت في إطلاق مشروع محور المقاومة، خاصة بعد أن دخلت فيه حركتا الجهاد الإسلامي ثم حماس، وخطت إيران طريقها في هذا المحور مع حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي، حتى جاء الاحتلال الأميركي للعراق وما أعقبه من أزمات وفتن داخلية، انتقلت لاحقاً عبر تظاهرات "الربيع العربي"، وتمحورها حول سوريا حيث كان الكمين الذي أغرق الجميع في الدماء، إلّا أنّ مركزية القضية الفلسطينية وتطوّر قدرات المقاومة في غزة، وتعرّضها لسلسلة حروب إسرائيلية صمدت فيها، ساهم في مجمله في تجاوز آثار هذه الفتن، حتى جاء السابع من أكتوبر وقد تبيّن عبره الخيط الأبيض من الأسود في فجر انبلاجه واندفاع الطوفان وحرب الإبادة.
نشطت تيارات سلفيّة وقوميّة وطوابير من العملاء والإعلاميين وأقزام المثقّفين، في تسعير أدنى اختلافات وتضخيم الفروقات، وهي في مجملها لا تساوي أيّاً من المشتركات الدينية والاجتماعية والإنسانية، وخاصة في مواجهة التحدّيات مع الكيان الإسرائيلي والتوحّش الأميركي الغربي، في وقت أخذت فيه إيران على عاتقها التصدّي لهذه التحدّيات، وتحمّلت حصاراً غربياً محكماً لعقود متصلة، في سياق عملية شيطنة إعلامية وفكرية، وقد ترسّخت صورتها في هذه العملية كدولة فارسية شيعية تقتل العرب وأهل السنة، وهي بحسب هذا الزعم حليفة لأميركا والكيان الإسرائيلي، في وقت انطلت فيه هذه الفبركات الإعلامية في كثير من المساجد والجامعات والمؤسسات الدينية.
وجاء التصدّي الفكري والإعلامي الفلسطيني والعربي والإسلامي ضعيفاً ومحدوداً، نتيجة غلبة البيئة المتأثّرة بالعولمة المادية الرأسمالية الغربية وأدواتها في الخليج كما معظم الأنظمة العربية والإسلامية، خاصة مع افتعال معارك وخصومات أبقت إيران والمحور في حالة متصلة من الدفاع عن النفس، على الرغم من الصراحة الإسرائيلية الأميركية في العداء مع إيران ومحاولة خنقها بأساليب مختلفة، حتى وصل ذلك لما هو قائم من حرب إسرائيلية مفتوحة ضدّها بدعم أميركي غربي صريح.
تمثّل هذه الحرب بين إيران والكيان الإسرائيلي، تحدّياً من نوع جديد، خاصة مع الضربات القاسية للمحور وطبيعة الضربة الإسرائيلية الافتتاحية لهذه الحرب على إيران، وما حملته من اغتيالات نوعية ثقيلة، إلّا أنّ الصمود الإيراني وما أفرزه من عمليات قصف مفاجئة للكيان الإسرائيلي، ما يجعل هذه الحرب مائدة مفتوحة يمكن للطلائع الفتية من أمّتنا أن تستعيد فيها مع كلّ صلية صاروخية بعضاً من قبس الوعي المسلوب.
لاحظ الأميركي مبكراً أصداء الجنون الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، وقد تنبّه لمخاطر المواجهة الإسرائيلية مع القوى الإسلامية ذات الخلفيّة المذهبيّة الشيعيّة، ما يفرغ كلّ الخطط السابقة من مضمونها كما صرّح كثيرون في واشنطن في تحذير الإسرائيليين، حتى غلب التيار الأصولي الأميركي بفوز ترامب، ما شجّع نتنياهو على الذهاب بعيداً في جرائمه وآخرها في العدوان على إيران، بما أنعش بيئة عكسيّة على وهج هذه المحنة التي دخلت فيها الأمّة وخاصة إيران، وهي محنة شديدة ولكن فيها ما يمكن أن يخرج قطاعات واسعة من هذه الأمّة، وفي المقدّمة نخبها الدينية والسياسية والثقافية من الاستلاب النفسي والذهني، ويعالج عقدها النفسية التي تحوّلت مع الزمن إلى أمراض عقلية وشعورية تسلّلت إلى العقل الجمعي واللاوعي النفسي.
قلب الإيراني البعيد خلف جبال زاغروس، أقرب لغزة وجنين وبنت جبيل من عرب النيل وقاسيون، وهو قرب تعمّده النار الإسرائيلية في قصف جباليا ومشهد، وقد امتدّ حبل الشهادة من الضاحية والشجاعية وصعدة وشواطئ دجلة، ليستعيد معالم الوعي المسلوب عبر هذه المعركة الفاصلة، هنا في خزاعة والقدس كما هناك في قلب طهران وعمامة المرشد تظلّل الحائط الأخير نحو النصر والفتح المبين.